نيكولا ساركوزي من رئيس الجمهورية الخامسة إلى سجينها، أو يكاد. لم يقفل عليه، حتى الآن، سوى أبواب التوقيف الاحتياطي في محكمة نانتير، في خلوة طويلة بدأت عند الثامنة من صباح أمس، وتستمر اليوم، مع قضاة انتظروا طويلا هذه اللحظة للانقضاض على الرجل الذي برع في التملص من كل الملاحقات منذ سنوات. وتسنى للقضاة استجوابه بهدوء، وطرح كل الأسئلة التي قد تجعل منه في الساعات المقبلة الرئيس الفرنسي الأول الذي يعتقل، ويحاكم، وربما يسجن.
الرئيس الفرنسي السابق كان قد برع في تسجيل الأسبقيات بإسمه طيلة توليه مقاليد الجمهورية الفرنسية الخامسة. فكان أول من حول الرئاسة من حصن محافظ مغلق إلى استعراض إعلامي مفتوح. وأول من طلق في القصر، وتزوج عارضة أزياء. وها هو يقرن بإسمه أسبقية الدخول إلى السجن، من بين كل من عرفتهم الجمهوريات الفرنسية منذ تأسيسها نهاية القرن التاسع عشر.
والحال ان خطورة اعتقال رئيس سابق تفرض الاستنتاج المنطقي، أن القضاة يملكون ما يكفي من الأدلة والقرائن، لأكثر من مجرد استدعاء ساركوزي، وربما لتقديمه إلى محاكمة. ومن دون أدلة لن يخاطر القضاة بمستقبله السياسي، وتوقيفه احتياطيا، ومواجهة البلاد والطبقة السياسية والإعلام، بتسجيل سابقة اعتقال وحبس رئيس جمهورية سابق، زعيم اليمين الفرنسي، ومرشح محتمل للعودة إلى الاليزيه، ولو كان التوقيف حبسا احتياطيا. لماذا اتخذ القضاة قرارهم، وكيف وقع الرئيس في قبضة المحققين؟
من سخرية الأقدار أن الرئيس السابق لم يعتقل بسبب الملفات الكثيرة، وطناجر الفضائح السياسية، التي تزغرد كلما تحرك موكبه السياسي. والملفات كثيرة: فضيحة التستر على رشوة في بيع غواصات إلى باكستان تحولت إلى عملية انتقامية قتل فيها تقنيون فرنسيون في إسلام أباد في التسعينيات. فضيحة تزوير كلفة حملته الانتخابية الرئاسية. قضية استغلال خرف الملياديرة بيتانكور مالكة شركة «رويال»، لتمويل حملته الرئاسية، ثم الاتهامات المتقاطعة بحصوله على خمسين مليون دولار من العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، لتمويل حملته الانتخابية في العام 2007، وتزوير فواتير حملته عام 2012 التي رفضها المجلس الدستوري.
القضاة لا يحبسون الرئيس السابق في أي من هذه القضايا مباشرة، لكنه وقع في قبضتهم، في قضية فرعية وهو يتجسس عليهم، لتدارك وصولهم إلى أدلة في القضية الأخيرة، والاطلاع بطريقة غير شرعية على مدى تقدم التحقيق في اتهامه بالحصول على أموال من معمر القذافي. القضاة والمحققون والرئيس السابق تبادلوا التجسس على بعضهم بعضا، إذ اكتشف المحققون في كل جلسة مع محاميه انه كان على دراية بكل ما كانوا يتوصلون إليه في تحقيقاتهم، فيما كان القضاة يتنصتون على هواتف الرئيس السابق ومحاميه.
الحبس الاحتياطي يستند إلى اكتشاف المحققين أن ساركوزي كان يحصل على ما تحويه ملفاتهم، عبر محاميه تييري هرتزوغ، من قاضيين كبيرين في محكمة التمييز مكلفين بمتابعة التحقيق في ملف تمويل القذافي حملته الانتخابية. وبالتنصت على القضاة والمحامي والرئيس السابق الذي لجأ إلى استخدام هوية صديق إسرائيلي قديم، دون علمه، للحصول على هاتف نقال، توصل القضاة إلى عناصر كافية أدت إلى اعتقال القضاة والمحامي، ثم نيكولا ساركوزي.
ويبدو أن ساركوزي، الذي يواجه تهمة استخدام النفوذ، قد وعد احد القاضيين الواشيين، بوظيفة كبيرة في إمارة موناكو، لقاء تجسسه على المحققين. وكشف التحقيق والتنصت على هواتفه أن الرئيس السابق لا يزال يملك شبكة كبيرة من المتعاونين والوشاة الذين يسرون له بكل ما يحتاج من معلومات لمنع القضاء من التقدم. والأخطر، وهو ما كشفته سجلات التنصت، أن الشبكة الساركوزية تمتد ابعد من مجرد قاضيين في محكمة التمييز، عبر أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتخترق الأجهزة الأمنية والقضائية، بواسطة أفراد لا يزالون يدينون بالوفاء للرئيس السابق.
وبغض النظر عن النتائج البعيدة المدى للتحقيق على مستقبل ساركوزي، فإن مجرد حبسه في قضية بهذه الخطورة، سيجعل من عودته إلى الاليزيه افتراضا صعب التحقق، رغم المعادلة الفرنسية التي تقول انه بوسع السياسي العودة إلى سدة المشهد، طالما انه لم يتلحف القبر، اعتمادا على ضعف ذاكرة الناخبين الشهير.
ساركوزي كان يستعد، قبل الدخول إلى حبس نانتير، لكسر عزلته السياسية التي فرضها على نفسه منذ أن غادر الاليزيه قبل عامين، واستعادة قيادة حزبه «الوحدة من اجل حركة شعبية» في انتخابات مقررة الخريف المقبل. والأرجح أن القضاة قد أراحوا الكثيرين من «أشقائه» في الحزب اليميني من عناء مواجهته. فإذا واصل القضاة عملهم، ستكون الطريق إلى زعامة اليمين والترشح إلى الاليزيه مفتوحة أمام خصومه من رؤساء الوزراء السابقين، لا سيما ألان جوبيه وفرانسوا فييون.
وطبيعي أن حبس الرئيس السابق خبر جيد لكل هؤلاء، ولغيرهم. إذ لم تذرف دمعة واحدة على حبيس نانتير. ويلتزم خصومه في الحزب الصمت، ولم تتجاوز ردود الفعل حتى الآن سوى طلب احترام فرضية البراءة، إلى أن يثبت العكس.
سي أن أن: تحذير بايدن من النووي الروسي لم يبن على معلومات استخبارية
قال العديد من المسؤولين الأميركيين لشبكة CNN إنّ "تحذير الرئيس جو بايدن ليلة الخميس من أن العالم يواجه أعلى احتمال...