في عصر تكتسح فيه الشبكة العنكبوتيّة عالمنا بجوانبه كافّة، تبدو المعلومات قادرة على الوصول الى أكبر شريحة ممكنة من الناس. من حيث المبدأ يُعتبر هذا الأمر صحيحاً، اذا لم نحدّد ماهية وطبيعة المعلومات التي يتلقّاها البشر حول العالم وتحديداً ذلك الناطق بلغة الضاد.
المشكلة في العالم العربي، أنّ نسبة المطالعة تكاد تكون معدومة. ويأتي الاعلام الالكتروني والعالم السيبيري ليضاعف من هذه الكارثة التي، ولسخرية القدر، يتلقّفها جمهور إمّا شبه أمّيّ و شبه متعلّم، او متعلّم لكن بثقافة هشّة او ثقافة “يوك” كما يقال باللغة العامّيّة اللبنانيّة.
وتظهر المصيبة “بأبهى” حللها حين يتولّى إعلاميّون وجامعيّون وأكاديميّون التربّع على عرش لقب “ملك المثقّفين الانترنيتيّين”. فهؤلاء يظنّون أنّهم امتلكوا مفاتيح النجاح والمعرفة بمجرّد متابعة الاعلام الالكتروني ونقل الاخبار عنه كيفما كان او كما كان يقول الشاعر زهير بن ابي سلمى “خبط عشواء” .
ولعلّ قمّة السخافة برزت مؤخّراً في الخبر الذي تناقلته وسائل الاعلام بشأن كتاب “الخيارات الصعبة” لهيلاري كلينتون الذي أبدت فيه دعمها لقيام دولة الخلافة الاسلاميّة وسائر السخافات التي أتخم بها “مثقّفونا الأعزّاء” مواقع الاعلام الالكتروني والتواصل الاجتماعي. هذا طبعاً، بدون أن يتأكّدوا من فحواها او ترابطها او الصفحات التي أخذت منها هذه الاخبار “القيّمة”. ولم يكن ينقصهم سوى اخبارنا أنّ عنوان كتابها هو:”أعلن انشقاقي على طريقة ادوارد سنودن”.
إذاً ليس المقصود بالثقافة ها هنا، كثرة المعلومات او تماسك المعرفة وتنوّع مصادرها فحسب، بل الأهمّ منهجيّة التفكير والقدرة على نقد الخبر وتمحيصه قبل تصديقه والبدء بنشره على طريقة:”استحلفك ان تنشره بقدر حبّك لفلان…” وفي هذه الحالة، بقدر حبّك للممانعة ومشتقّاتها…
يعاني هؤلاء أيضاً من الخلط بين الواقعات وعواطفهم الشخصيّة، فترى أنّ كلّ خبر حتى ولو افتقد للحد الادنى من المنطق، هو صحيح وجدير بالنشر فقط لأنّه يخدم أهواءهم السياسيّة والحزبيّة، والعكس صحيح. فتراهم ينشرون خبراً عن احدى الوكالات الايرانية (تحوّل المصدر في ما بعد الى جهاز مخابرات روسي) عن أنّ أمير داعش أصله صهيوني واسمه شمعون إيلوت. بقي أن يطلعونا على رقم سجلّه …
من جهة أخرى، كان لافتاً أيضاً نشر فيديو على الوسائل الاعلامية الممانعة يقول فيه الرئيس السابق في CIA “جيمس وولسي”: “سنصع لهم اسلاماً يناسبنا من خلال الثورات ثمّ نقسم الدول الى دويلات” علماً أنّ من يستمع للشريط يدرك أنّ الرجل لم يقل أيّ شيء من هذا القبيل، وليس ذنبه أنّ الممانعين يجيدون اللغة الانكليزية كما يجيد السيراليوني اللغة الصينيّة! علماً أنّ الخبر حصل على نسبة اعجاب ونشر رهيبة. فعلاً ينطبق هنا عليهم قول السيّد المسيح:”عميان يقودون عمياناً”.
وكي لا ينصبّ نقدنا على فئة واحدة فقط، يكفي التذكير بالخبر الذي نشر العام الماضي والمنقول زورا – كما تبيّن لاحقا – عن موقع للأرصاد الجوية الروسية، أنّ شتاء 2013-2014 سيكون الابرد والأقسى على المنطقة منذ 100 سنة. وها نحن نرى تداعيات تلك القساوة عبر خطط طوارئ لشراء المياه من تركيا!
هذا ولم نذكر بعد المثقّفين من فئة “قال الفيلسوف فلان” حيث ينسب هؤلاء كلاماً لأفلاطون قد يكون مثلاً لعلي بن أبي طالب وكلاماً لكونفوشيوس قاله مونتسكيو …
وداعاً لعصر المطالعة
وداعاً لعصر التحرّي عن مصداقيّة الخبر
وأهلاً وسهلاً بعصر … قال هتلر على لسان الأم تيريزا …