المنطقة التي هي مهد المسيحية ومنها انطلقت الشرارة والبشارة إلى الناس أجمعين، تفرغ من مسيحييها وتواجه أخطر أزمة وتهديد على مرّ تاريخها القديم والحديث.
فما جرى في العراق وانطلاقاً منه يفوق كل تصور ولا يستوعبه عقل. هو الارهاب والاجرام في أبشع اشكاله وأسوأ صوره ومشاهده. هو الاستهداف المبرمج والممنهج للوجود المسيحي لضربه ومحوه من الوجود. فما شهدناه في الموصل لم يكن فقط جرائم ضد الانسانية وانتهاكاً صارخاً لحقوق الانسان وكرامته وحياته وانما كان ايضاً جريمة تاريخية موصوفة ضد جماعة متجذرة في أرض هذه المنطقة، منطقة الشرق العربي، وفي تاريخها ووجدانها، وضد حضارة انسانية هي في أساس الحضارات المتعاقبة والمتحدرة من بلاد ما بين النهرين. وضد أقليات دينية تتعرض للقهر والالغاء على يد مجموعة مجرمين وقتلة لا يصح وصفهم بـ «مجموعات اسلامية»، كونهم لا يمتون بصلة للاسلام.
سواء كان ما يجري في العراق، من نتاج مؤامرة دنيئة ومخطط مرسوم للمنطقة عن سابق تصور وتصميم، أو كان من نتاج دينامية الصراع السني – الشيعي وتداعياته التي جعلت المسيحيين من ضحاياه ووقوده، فان النتيجة والمحصلة المأسوية لكل ما يجري ان كارثة حقيقية تحصل وان جريمة كبرى ترتكب باقتلاع المسيحيين وتصفية وجودهم المادي والجسدي وتنفيذ الاغتيال الجماعي بحقهم، ويجري ذلك كله على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي الذي يكتفي بالتفرج والوقوف مكتوفاً عاجزاً أو متواطئا ومتخاذلاً. وفي الحالين فان الأمم المتحدة بكل مواثيقها واهدافها وتاريخها تصاب بانتكاسة وتتلقى «صفعة قوية» وتضع كل الذين عوّلوا عليها واحتكموا إليها لإحقاق الحق والعدالة والسلام، تحت الصدمة والخيبة.
فكيف يجري ما يجري في القرن الحادي والعشرين وكأننا في القرون الوسطى وعصور الجاهلية، وكأن العالم متروك لمصيره تحكمه الفوضى وشريعة الغاب وليس هناك من مرجعية دولية واحكام وقوانين ومواثيق ضربت كلها عرض الحائط. وكيف للعالم ان يبقى ساكتاً وتحديداً العالم الغربي وفي مقدمه الولايات المتحدة وأوروبا. هذا العالم الحرّ الذي بنى تاريخه وأمجاده وتطوره الحضاري على قيم ومبادىء الحرية والأخوة والعدالة وحقوق الانسان.
لم تفعل هذه الدول التي تكيل بمكيالين وترى بعين واحدة شيئاً لمساندة المسيحيين وحمايتهم وتثبيتهم في أرضهم. فاذا تحركت لا تذهب إلى أكثر من ارسال مساعدات انسانية إلى نازحين ولاجئين. واذا عرضت خدماتها واتخذت موقفاً فانها تذهب باتجاه تشجيع المسيحيين على مغادرة أرضهم والتوجه إليها. قائلة لهم ماذا تفعلون هنا أيها المسيحيون ولماذا تتكبدون كل هذا الاضطهاد وهذه المعاناة ؟ تفضلوا فنحن بحاجة ليد عاملة وعمال في بلداننا والمجال مفتوح أمامكم أهلاً وسهلاً بكم.
الموقف الدولي والغربي ليس ابداً في مستوى الاحداث وخطورتها وليس في مستوى الرسالة المسيحية في العالم انطلاقاً من الشرق، مركز الاشعاع الديني والحضاري. ومن الواضح ان المسيحيين ليسوا في حسابات هذه الدول وعلى أجندتها وليسوا جزءاً من مصالحها وانما يتم التعامل معهم كأقلية عددية وليس كأكثرية نوعية تشكل مصدر غنى وتنوع وواحة حياة في هذه «المنطقة – الصحراء». واذا حصل ان قررت الولايات المتحدة التدخل، فلكي تحمي بعثاتها الدبلوماسية ومصالحها في بغداد واربيل، واذا قررت ان توجه ضربات جوية، فلكي ترسم خطوط الصراع والكيانات التي ستقوم على انقاض الدولة الواحدة، ولكي تحمي كردستان التي حمت المسيحيين ووفرت لهم الملجأ والملاذ أكثر من أي دولة أخرى قريبة أو بعيدة…
والسؤال هنا: لماذا لا ينتفض الأميركيون ولا يغضـبون إلا اذا رأوا رأساً أميركياً يقطع ورهينة أميركية جاثية على ركبتيها فيما آلاف الرؤوس تقطع وآلاف النـساء تسبى وتبـاع وآلاف العائلات تطرد من بيوتهـا لتواجه الضياع والتفكك والبؤس والحرمان… وهل يعتقد الأميركيون والاوروبيون ان مشاكل الشرق الاوسط يمكن ان تحل على حساب جماعات وطوائف ودول، وان الاستقرار يمكن ان يستتب ويمـكن ان يبنى على انقاـض حضـارات واديـان وأقليات، وهل يعتقدون انهم في مأمن ومنأى عما يجري عندنا وهل هم غافلون وجاهلون لهذا الخطر الارهابي المتفشي مثل السرطان والواصل إلى شوارعهم وناسهم وبلدانهم عاجلاً أم آجلاً، وهل ينتظر الأميركيون والأوروبيون من قبلهم وصول داعش إليهم لكي يتحركوا؟
بقدر ما نلقي باللائمة والمسؤولية على العالم الغربي «المتحضر»، فاننا نلقيها بالقدر نفسه ايضاً على العالم العربي الاسلامي المقصّر في دوره والضعيف في رد فعله وتفاعله مع عملية الابادة الجماعية التي تحصل باسم «الدولة الاسلامية». لماذا لم يصدر عن المرجعيات والقيادات الاسلامية الدينية والزمنية ما يعكس قلقاً عظيماً على ما آل إليه وضع المسيحيين ومصيرهم وما يعكس الشعور بالخطر والادراك لحجم وفداحة الخسارة اللاحقة بالمنطقة العربية وبالاسلام ديناً وحضارة؟ ولماذا لم يصدر عن المراجع الاسلامية ما يطمئن المسيحيين ويهدىء من روعهم؟
المسيحيّون ينتظرون أكثر من بيانات استنكار وإدانة باردة ويحتاجون إلى خطوات ومبادرات عملية وعاجلة وفاعلة وإلى أصوات حرة مسؤولة ترتفع عالياً في وجه الظلم والجهل والتطرف والعنف الأعمى.
وهنا لا بد من القول بأنه لم نسمع صوتاً يشبه أصوات صلاح سلام رئيس تحرير جريدة اللواء وأمين عام لجنة الحوار المسيحي – الاسلامي محمد السمّاك الذي كتب متسائلاً: هل العالم العربي يدرك فعلاً فداحة الثروة الانسانية والثقافية والعلمية والاقتصادية والوطنية الكبرى التي يخسرها من جراء اضطرار المسيحيين العرب للهجرة… حيث يضيف: ان الهجرة القسرية في ذاتها ترسم صورة قبيحة وغير صحيـحة عن الاسـلام، ومن المعالم المباشرة لهذه الصورة المشوّهة الجرائم التي ترتكب باسم الاسلام بحق المسيحيين في العراق وسوريا ومصر. ومن معالمها غير المباشرة تصوير الاسلام من خلال الهجرة المسيحية القسرية كأنه دين يرفض الآخر. مضيفاً انه من شأن ذلك ان يطرح أمام المجتمعات الاجنبية المختلفة السؤال التالي: اذا كان الاسلام يرفض الآخر، فكيف يمكن ان نتعايش مع المسلمين الذين هاجروا إلى مجتمعاتنا وأصبحوا يتمتعون بحقوق المواطنة في دولنا ؟ لا يمكن للمسلمين ان يطالبوا بحقوق المواطنة في الدول الاجنبية التي يهاجرون إليها وان يحجبوا هذه الحقوق عن أهل البلاد الأصليين في الدول التي يشكّلون فيها أكثرية عددية. ويخلص السّماك إلى هذه النتيجة: ان المسلمين والمسيحيين في خندق واحد وفي مواجهة عدو واحد. وتفرض هذه المواجهة على المسلمين تحديداً واجباً اخلاقياً ووطنياً وانسانياً ودينياً باعلان الفتاوى التي طالب بها مجلس البطاركة واستجابة لما يقول به الاسلام نفسه… ولكن المشكلة الأساسية تكمن في ان العالم العربي منقسم بين تطرف اسلامي قاتل واعتدال غير فاعل…
من هنا وإذ نعيّب على المجتمع الدولي وعلى العالم العربي والاسلامي ونأخذ عليهم ان ردة فعلهم وتحركاتهم لا تتناسب مع حجم الكارثة التي حلّت على المسيحيين وقوّضت وجودهم ومستقبلهم في هذه المنطقة وهم سكانها الاصليون والاصيلون. فاننا لا نعفي المسيحيين في لبنان وخصوصاً قياداتهم السياسية من الانتقاد والمساءلة لأنهم هم ايضاً لم يظهروا انـهم في مستـوى الاحـداث والمسؤوليـة التاريخية وانهم واعون للخطر المحدق بهم ويستوعبون ما يجري من حولهم وهم المحاصرون بزنار من نار.
لطالما كان لبنان على مرّ التاريخ ملاذاً و ملجأ للأقليات المضطهدة في الشرق وكان المسيحيون رواداً وطليعين في رفع لواء الحرية وفي الدفاع عن المظلومين والمضطهدين. ولكن لبنان اليوم لا ينظر إليه مسيحيّو العراق وسوريا إلا كبلد «ترانزيت» ومحطة عبور إلى العالم الآخر في الغرب، ولم يعد يشكل مصدر ثقة واطمئنان لهم. القادة المسيحيون في لبنان لا يقومون بما يتوجب عليهم ولا يتحملون مسؤولياتهم وكأنهم لا مبالين ولا مدركين لخطورة الوضع والارهاب الذي يطرق لبنان من بواباته الحدودية واولها بوابة عرسال، ويوجه تهديداً صارخاً للبنان كياناً ودولة وشعباً، وفي وحدته وسيادته وأمنه واستقراره…
السياسيون المسيحيون يتلهون بالقشور عوضاً عن الاهتمام بالجوهر، ففي الوقت الذي يصل دفق النزوح المسيحي السوري والعراقي إلى لبنان، ويضرب الارهاب على أرضه مستهدفاً جيشه وشعبه، نرى هؤلاء منصرفين إلى مصالحهم ومشاغلهم وغارقين في متاهات وتجاذبات وفي زواريب السياسة الضيقة وفي معارك رئاسية وهمية وتصفية حسابات شخصية وسياسية، وغافين عن اخطار كبيرة وحقيـقية محدقـة بالوجـود المسيحي…
فيا أيها السياسيون استفيقوا من سباتكم العميق واوقفوا انفصالكم عن الواقع…
ويا أيها المسيحيون لا تنتظروا السياسيين في دور انقاذي وانما اسبقوهم وتجاوزوهم وافرضوا عليهم التوجه والموقف. ففي زمن المحن وعندما يكون المسيحيون أمام خطر وجودي لا مكان إلا للرجال الرجال وأصحاب القامات العالية والتضحيات الغالية، وللأقوياء في نفوسهم وايمانهم وقضيتهم…
ويبقى الرجاء لدى اتباع المسيح أقوى من كل ما تقدم… فهو مزيل الاحباط واليأس والبؤس وهو خير دواء للروح والخميرة الصالحة لبني البشر…
بالرجاء تغلبوا على الشر، وايمانهم لا تقوى عليه ابواب الجحيم… هكذا عاشوا على مدى السنين وهكذا عرفتهم كل الاجيال، ناساً ملأ المجد قلبهم فملأوا الدنيا حباً وجمالاً.
لماذا يهدّد الروس العالم بالسّلاح النووي؟
كان الخطاب الذي أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الاحتفال بضمّ الأقاليم الأربعة إلى روسيا بمنزلة استكمال للخطاب السابق الذي...