يراهن أوباما على استغلال الحملة الجديدة لمكافحة ارهاب داعش ليشيع الانطباع باعادة استلام زمام المبادرة السياسية، خارجيا وداخليا، بعد اتهامات قاسية له بغياب القدرة القيادية الضرورية لحماية المصالح الكونية الاميركية.

في البعد المحلي الداخلي، شكل الخطاب بعد طول انتظار محاولة لمحاكاة الاعتبارات السياسية المحلية، في ظل مناخ الانتخابات القادمة، عبرت عنه احد الصحف الكبرى بعنونة افتتاحيتها “أوباما يعلن الحرب على نتائج الاستطلاع المتردية”. وهو يفسر ايضا مغزى تكرار الرئيس أوباما استخدام مصطلح “استراتيجية” في خطابه لتعديل تصريحه السابق بأن بلاده “لا يتوفر لديها استراتيجية” واضحة المعالم للتصدي لداعش.
دأبت استطلاعات الرأي المحلية، في الآونة الاخيرة، على ابراز تدني نسبة الدعم الشعبي للرئيس أوباما سيما وان “عددا كبيرا منهم لا يأخذ تصريحاته حول السياسة الخارجية على محمل الجد .. واعربت نسبة مذهلة منهم، 55%، عن حرجهم وارتباكهم من عدم توصل الرئيس أوباما لبلورة استراتيجية للتصدي للدولة الاسلامية لحين اللحظة”. تأييد الرئيس أوباما لم يتعدى نسبة 32% من الاميركيين، عشية القائه خطابه؛ وهو يدرك بوعي تام تداعيات ذلك على نتائج الحملة الانتخابية المقبلة.
مفاهيم مبهمة تشوش الوعي العام الأميركي

حذر الرئيس أوباما الشعب الاميركي والغربي عموما من خطورة عدم التصدي لداعش. “هؤلاء الارهابيون باستطاعتهم تشكيل تهديد ينمو خارج حدود تلك المنطقة – ومن ضمنها الولايات المتحدة .. لن اتردد باتخاذ ما يلزم من اجراءات ضد الدولة الاسلامية في سوريا، والعراق ايضا .”. بينما في الواقع ناقضه الرأي بعض اركان ادارته، احداهن جنيفر لاسلي، ضابط استخبارات في وزارة الأمن الداخلي، قائلة ان “الدولة الاسلامية لا تشكل خطورة على الولايات المتحدة في المدى المنظور”، في شهادة ادلت بها امام اللجنة الفرعية للأمن الداخلي في مجلس النواب. المفارقة ان شهادتها وشهادات مماثلة لآخرين جاءت قبل بضع ساعات من القاء أوباما خطابه المذكور.
وعليه، يمكننا القول ان الحرب العدوانية الثالثة على العراق قد اتضحت معالمها، وانعشت مرة اخرى احلام المحافظين الجدد بنسخة أوباما، لتقسيم العراق وفق محاصصة طائفية وعرقية. ما يعزز ذلك هو افصاح أوباما واركان ادارته بأن “الحملة ضد الدولة الاسلامية” ستستغرق بضع سنين، الى ما بعد انتهاء ولايته الرئاسية. جدير بالذكر ان دوائر صنع القرار، لا سيما في المعسكر الصناعي الحربي، روجت لاحتلال العراق منذ زمن باعتباره “منصة انطلاق تكتيكية” لخدمة اهداف اعادة رسم حدود منطقة الشرق الاوسط برمتها. (في هذا الصدد يرجى مراجعة اصدارات مؤسسة راند بتاريخ 6 آب 2002)
تردد وقلق في الغرب
“استراتيجية حلف أوباما” اوضحها الرئيس في خطابه بالقول بانها “استراتيجية شاملة ومستمرة لمكافحة الارهاب .. تنطوي اولا على شن حملة ممنهجة من الضربات الجوية .. وسنوسع نطاق جهودنا الى ابعد ما تقتضيه حماية مواطنينا (هناك) المنخرطين في عمليات الاغاثة الانسانية .”. في ذات السياق، كرس الرئيس أوباما خطة تقسيم المنطقة في خطابه الاعلامي عبر تكرار مصطلحاته ان المجتمعات العربية ما هي الا ثمة تجمعات “طائفية تشمل السنة والشيعة من المسلمين، والمسيحيين واقليات دينية اخرى .”. وتعمد تغييب الهوية الوطنية والقومية اتساقا مع الاستراتيجية الاميركية بعيدة المدى.
آفاق نجاح “استراتيجية أوباما”

في هذا الصدد، يشير بعض المراقبين في العاصمة الاميركية الى توقيت اعلان الاستراتيجية، 11 أيلول/سبتمبر، سيما وان “الصدف” التاريخية نادرا ما اثبتت انها حقيقة صدفة. اوجه التشابه ليست من باب الترف الفكري، سيما وان 11 ايلول 2001 لا تزال تحوم حوله الشبهات بأنه منصة انطلاق اسفرت عن تكريس استفراد اميركا بالعالم ودمرت واحتلت دولا عربية عدة، من العراق الى ليبيا واليمن والصومال، الى الحروب الاخرى المناطة بالكيان الصهيوني، الى الاغتيالات بطائرات الدرونز .. الخ. الحادي عشر من ايلول اضحى اعلانا بالعدوان المفتوح غير مقيد بفترة زمنية.
شبكة فوكس نيوز اليمينية اظهرت ارتياحا مشروطا باستراتيجية أوباما استخدام سلاح الجو الاميركي بكثافة “مدعوم بقوات برية موالية”، بيد انها حذرته من نتائج استطلاعاتها للرأي التي تشير الى اعتقاد الغالبية من الشعب الاميركي، نحو الثلثين، بان نجاح الاستراتيجية ينطوي على نشر قوات اميركية برية لتحقيق هدف الحاق الهزيمة بداعش مع استمرار القصف الجوي المكثف.
تنبغي الاشارة في هذا السياق الى ما اضحى ممارسة ثابتة في الاغتيالات وثقتها وسائل الاعلام الاميركية، اذ يصغي الرئيس أوباما صباح كل يوم ثلاثاء الى تقارير رؤساء اجهزة الاستخبارات يستعرضون معه لائحة “الاغتيالات” المرشحة للمصادقة عليها وتنفيذها على الفور. من غير المستبعد ان تشمل تلك الاجراءات سوريا في ظل “الاستراتيجية” الجديدة.
يحضرنا في هذه المناسبة ما سبق الاشارة اليه فيما يخص الاسلحة الليبية المتجهة الى سوريا. اذ اكدت شبكة (سي ان ان) للتلفزة العام الماضي، نقلا على لسان ممثلين في الكونغرس، ان حادثة البعثة الديبلوماسية الاميركية في بنغازي، 11 ايلول / سبتمبر 2012، التي اسفرت من مصرع السفير الاميركي كريستوفر ستيفنز وعدد من ضباط الاستخبارات الاميركية، كانت “عملية اعداد سرية لنقل صواريخ مضادة للطائرات متطورة من ليبيا، عبر تركيا، وتسليمها للمجموعات السوريا المسلحة”. واضافت الشبكة ان موظفي السفارة الاميركية، في طرابلس وبنغازي، تعرضوا لسلسة اختبارات لاجهزة كشف الكذب وتلقوا تعليمات صارمة بعدم البوح بأي من تلك المعلومات.
أوباما يراهن على استغلال الحملة الجديدة لمكافحة ارهاب داعش ليشيع الانطباع باعادة استلام زمام المبادرة السياسية خارجيا وداخليا بعد اتهامات قاسية له بغياب القدرة القيادية الضرورية لحماية المصالح الكونية الاميركية، ويدرك ان الاسابيع القليلة القادمة قد تكون الاكثر حراجة قبل الانتخابات النصفية لانقاذ ما يمكن انقاذه من تركة للتاريخ ومن وزن مهدد لحزبه الديمقراطي.