إصرار الحوثيين على وضع البندقية على الطاولة بجوار قائمة مطالبهم أدى إلى تصاعد التوتر الطائفي في اليمن بشكل كبير كون الحوثيين ينتمون إلى الطائفة الشيعية فيما ينتمي خصومهم السياسيون إلى الطائفة السنية.
وبعد سيطرتهم على محافظة عمران يسعى الحوثيون إلى قطف الثمار السياسية لإنجازهم العسكري، وقد وجد زعيمهم عبدالملك الحوثي في معركة “دعم الوقود” طريقا للتحول من رجل ميليشيات إلى زعيم يمتلك خيوط المشهد السياسي في سيناريو يحاكي إلى حدّ كبير مسيرة حزب الله في لبنان.
يؤكّد ذلك مراقبون قالوا إن إيران بدأت بالفعل في تحويل الحوثيين إلى “حزب الله آخر في اليمن”، وما تغيير تسميتهم من “الشباب المؤمن” إلى “أنصار الله” إلا دليل على ذلك.
وكان الرئيس اليمني قد طالب إيران في مارس الماضي بوقف دعمها للانفصاليين في الجنوب والجماعات الدينية في شمال البلاد التي تسعى جاهدة لاستعادة الاستقرار بعد أكثر من عامين من الاضطرابات السياسية.
ويطرح المراقبون أدلة تعزز وجهة نظرهم بالتشابه الذي تشهده الساحتان السياسيتان في كل من اليمن ولبنان، حيث نجح حزب الله اللبناني في الحفاظ على الوضع الراهن، الذي فشل بموجبه مجلس النواب في التوافق على رئيس للبلاد وسط المخاطر الأمنية المحدقة بها.
نفس الأمر يتكرر في اليمن من خلال محاولة الحوثيين إجبار الحكومة على الاستقالة وفرض مطالبهم الخاصة بـ”الجرعة السعرية”، التي يحتاجها الاقتصاد اليمني الآن أكثر من أي وقت مضى لإعادة التوازن المفقود لمنظومة الدعم على الوقود في البلاد.
وعلى ما يبدو فان عبدالملك الحوثي يتطلع إلى الخروج من الأزمة الحالية بوجه جديد يتخلى من خلاله عن الصورة المعروفة عنه كأحد رجال الميليشيات المسلحة، التي تتخذ من الطائفية عقيدة لها، وتدخل بين الحين والآخر في صراع مع الحكومة بتوجيهات من إيران، ويقدم نفسه، بدلا من ذلك، كزعيم سياسي، يسير على خطى أمين عام حزب الله، حسن نصرالله.
لم يكن الفكر الحوثي حالة طارئة على المجتمع اليمني وإن ظهر بشكل مفاجئ مستغلا الصراعات المتوالية في الساحة اليمنية التي بلغت ذروتها في العام 2011 والتي هيأت للحوثيين النزول من جبال صعدة للتوغل في المشهد اليمني فكريا وعسكريا.
عقب سقوط النظام الملكي في اليمن في العام 1962، والذي كان يقود البلاد وفقا لنظام الإمامة الزيدية ظل الصراع محتدما لسنوات قبل أن تنحسر القوات الملكية المطالبة بعودة الإمامة لتستقر في محافظة صعدة آخر المناطق التي ظلّ الملكيون يحتفظون بها حتى تم إبرام اتفاقية صلح معهم سمحت لهم بالعودة إلى المجتمع اليمني كمواطنين وهو الأمر الذي جعلهم يذوبون في صفوف المجتمع غير أن النار ظلت متقدة تحت الرماد وخصوصا في صعدة أهم معقل للمذهب الزيدي في اليمن وموطن الفكر الهادوي القائم على التشيع.
عاد الملكيون إلى منازلهم غير أنهم ظلوا محتفظين بأعلام دولتهم الغابرة وبمظلومية ظلت تكبر في نفوس الأجيال اللاحقة والتي ربما شهد بعضهم عودة آبائهم محملين بالهزيمة من جبهات المعارك كما هو الحال مع حسين بدرالدين الحوثي ابن أحد ابرز علماء الزيدية في اليمن والذي خاض غمار السياسية حتى أصبح عضوا في البرلمان اليمني قبل أن ينكفئ على نفسه ويتحول إلى داعية شيعي غير راض عما أسفرت عنه التحولات التاريخية من تراجع للفكر الزيدي لصالح ما اعتبره غزوا وهّابيا.
نشأت في صعدة شمال اليمن نواة لحراك شبابي يتبنى المظلومية الزيدية في اليمن ويطالب بعودة الحق لأصحابه وتحت هذا المسمى نشأت عدد من الجمعيات الشبابية كان من أبرزها “حركة الشباب المؤمن”. في هذه الأثناء كان حسين بدرالدين الحوثي، السياسي السابق، يتحول إلى رجل دين يحاول استعادة تراث أجداده وقد وجد في مبادئ الثورة الخمينية الإيرانية ملهما له وهو ما دفعه لزيارة إيران ليعود أكثر تشيعا واندفاعا.
في هذه المرحلة بدأ حسين بدرالدين الحوثي بالتجول في مناطق صعدة لتقديم فكرته الجديدة القائمة على تحويل المذهب الزيدي القابل للتعايش والذوبان في محيطه السني إلى فكر أكثر تصلبا وغير قابل للاندماج اعتقادا منه أن هذه هي الطريقة المثلى للحفاظ على الزيدية من الانقراض في ظل انتشار الفكر السلفي الذي استشرى في عقر مراكز الزيدية في اليمن ومنها صعدة حيث تم إنشاء أكبر مركز لنشر السلفية في اليمن في مدينة دماج على يد أحد أبناء صعدة العائدين من السعودية وهو الشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
بدأ الحوثي في نشر مبادئ فكره الجديد وكان يهدف كما يبدو إلى التخلص من تراث سلفي هائل تمكن من التأثير على مبادئ الزيدية. واعتمد في نشر أفكاره على محاضرات منسوخة سميت لاحقا “الملازم”. حاول فيها تقديم نموذج جديد للفكر الزيدي أكثر ثورية وأكثر تشيعا مستفيدا من الأرضية المناسبة في محافظة صعدة حيث كانت المظلومية لاتزال نارا تحت الرماد في ظل مجتمع محافظ تغلب عليه نسبة الهاشميين الذين يسمون أنفسهم “آل البيت” ويعتبرون أن حقهم الإلهي في الحكم قد سرق منهم بفعل الثورة التي أسقطت الإمامة في العام 1962.
بدأت أصداء “حركة الشباب المؤمن” و”ملازم” حسين بدرالدين الحوثي تصل إلى صنعاء لتحرك توجسا دائما كان يساور الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح تجاه الظواهر الجديدة.
تقول الكثير من المصادر إن علي عبدالله صالح لم يطمئن كثيرا للتقارير التي كانت تنقل له ما يجري في صعدة لذلك فضّل في ذلك العام أن يسافر للعمرة برّا عن طريق محافظة صعدة ومنها إلى المملكة العربية السعودية. وفضّل أن يتوقف لبعض الوقت في صعدة ويؤدي الصلاة في مسجد الإمام الهادي الذي ينسب إلى مؤسس الفكر الزيدي الهادوي في اليمن. وهناك قوبل الرئيس صالح بهتاف يسمعه للمرة الأولى وكان “الصرخة” التي تسببت لاحقا في اندلاع ستة حروب.
دعا حسين الحوثي أنصاره لإطلاق الصرخة الشهيرة التي تقول:
“الله أكبر.. الموت لأميركا
الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود
النصر للإسلام”.
أدرك الرئيس صالح أن الجذوة التي كان يعتقد أنه تم إخمادها قد صبّ الزيت عليها من جديد لذلك قام باستدعاء حسين بدرالدين الحوثي إلى صنعاء طالبا منه التوقف عن توجيه أنصاره بإطلاق هذا الشعار .
رفض الحوثي التوجّه إلى صنعاء لمقابلة الرئيس صالح وهو ما اعتبره الرئيس اليمني تحديّا واضحا وإصرارا من قبل الحوثي على السير قدما في مشروعه الذي كان توجّس علي عبد الله صالح من تبعاته.
صعدة بين الجيش اليمني وأنصار حسين الحوثي وانتهت الحرب بمقتل هذا الأخير في “جرف سلمان” ونقلت جثته إلى صنعاء ولم يعلن عن مكانه حتى العام 2013 عندما سلم الرئيس هادي جثمان الحوثي ثمنا لمشاركة الحوثيين في مؤتمر الحوار الوطني.
على الرغم من مقتل حسين الحوثي ازدادت فكرته توهّجا بعدما تحول في نظر أتباعه إلى شهيد وقاد شقيقه عبدالملك الحركة ورفض الرضوخ لوساطات الرئيس صالح المتعددة التي كانت كل وساطة منها تنتهي بحرب جديدة بلغت في مجموعها ست حروب توقفت بشكل نهائي في العام 2011 عندما اندلعت الثورة.
كانت تلك الثورة نقطة فاصلة في تاريخ الحوثيين الذين تمكنوا من إكمال سيطرتهم على مختلف مناطق صعدة بما في ذلك مركز دماج السلفي الذي كانوا يعتبرونه بؤرة تثير غضبهم. واستغل الحوثيون فرصة توقف الحرب وانشغال الدولة اليمنية بتداعيات الأزمة السياسية وأخذوا ينظّمون صفوفهم ويتسلّحون بشكل جيّد بدعم مباشر من إيران كما قاموا بإنشاء معسكرات التدريب. وعلى الصعيد السياسي أعلنوا عن أنفسهم كحركة أنصار الله، على منوال حزب الله، ذراع إيران في لبنان، مستفيدين من كل تجارب وخبرات الحزب وأخذوا يتقمصون شخصيته.
واصل الحوثيون الانتشار في عدد من محافظات شمال اليمن وخصوصا حجّة والجوف وعمران وذمار وتمكنوا من السيطرة بشكل كلي على محافظة عمران بعد حرب خاضوها مع أولاد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، شيخ قبائل حاشد، الذي كان يعتبر أبرز خصومهم التاريخيين وإحدى العقبات أمام تمددهم في محيطهم القبلي. كما خاضوا حربا أخرى مع اللواء حميد القشيبي، قائد اللواء 312، الذي كان يدين بالولاء للإخوان.
واستغل الحوثيون الخلاف الذي دب في صنعاء بين الرئيس اليمن الحالي عبدربه منصور هادي والإخوان ورفض اللواء القشيبي الانصياع لتوجيهات وزير الدفاع ليسقطوا محافظة عمران كاملة غير أنهم حاولوا إقناع الرئيس هادي بأنهم لم يسقطوا إلا اللواء المتمرد عليه ودعوه لزيارة المحافظة وهو الأمر الذي قام به بالفعل.
في ذلك الوقت كانوا يخططون بالفعل لحصار صنعاء وهو ما تم مؤخرا فور إعلان الرئيس هادي عن إلغاء الدعم الحكومي على المشتقات النفطية مستغلين حالة الغضب الشعبي من هذا القرار الذي تسبب في زيادة معاناة المواطن اليمني.
خلال سنوات قليلة ومعتمدين على القوة والمظلومية وتحت غطاء من الذرائع المتكرّرة واستغلال الخلافات المتفاقمة بين القوى السياسية المصارعة في صنعاء استطاع الحوثيون وبدعم سياسي واستشاري ومالي من حزب الله وإيران، كما تقول بعض المصادر، أن يغادروا الكهوف التي كانوا يختبئون فيها في جبال مران في صعدة ليصبحوا على بعد مئات الأمتار من منزل الرئيس اليمني الذي لازال يرسل الوسطاء إلى صعدة بغية نزع فتيل الحرب بينما الحوثيون يحفرون الخنادق في صنعاء وحولها تمهيدا لإسقاطها أو إغراقها في حالة حرب وفوضى عارمة في أحسن الأحوال.