تقرأ لبعض الفقهاء فتحسب ان السنّي هو الشيعي وان الشيعي هو السني. خط ايديولوجي لا مرئي بين الاثنين، وهو في الطريق الى الاضمحلال، وتقرأ للبعض الآخر فتحسب ان للسنّي دينه و للشيعي دينه، ربما لكل واحد الهه الذي يختلف عن الاله الآخر…
لكأن محد اركون لم يحذرنا من ذلك الطراز من الفقهاء الذين هم اقرب الى الشعوذة اللاهوتية منهم الى من يرى الجانب الفذ والمشع من النصوص التي يتفق المسلمون على انها نزلت من السماء ولم تخرج من باطن الارض. استغرب اركون كيف نتبع اولئك الذين لا يجدون حرجا في ان يصنعوا للملائكة وجوه الساحرات…
هم اولئك الفقهاء، والحديث عن طراز معين، الذين تتصاعد من عمائمهم، ولحاهم، ألسنة اللهب. انظروا الى بعضهم على الشاشات ولاحظوا كيف يتطاير الشرر من افواههم ومن عيونهم. وكان روجيه غارودي قد لاحظ ان هناك من يغتال الاسلام بالاسلام. قال لي ذلك في حديث اجريته معه. لكنه لم يتصور ابدا ان تتحقق تلك النبوءات الغامضة حول بحيرات الدم، وحول حقول الجماجم، كما لو ان المخلص، واياً كان هذا المخلص، لا تبعث به السماء إلا لكي يختال بين الجثث. ما جدوى المخلص اذا اختزلت مهمته هكذا؟..
الاسلام في ازمة الاسلام. لا مجال للدخول في التفاصيل، ولا معرفة لدينا في شؤون الفقه و شجونه. و لا ريب ان شجونه اكثر بكثير من شؤونه اذا ما اخذنا بالاعتبار النظرية الاوروبية التي تعتبر ان الدين هو تفسير الدين. اذاً، كم هو عدد الديانات الاسلامية التي جاء من اجلها الرسول العربي؟
لا بأس ان يصفنا برنارد لويس بـ«قتلى الايديولوجيا». استغرب كيف ان فرنسيس فوكوياما كتب عن نهاية التاريخ، دون ان يعلم بأمر ذلك الزواج السري( والمقدس) بين التاريخ والايديولوجيا…
هل تصح كلمة «استطراداً» هنا لنتحدث عن ازمة التاريخ وازمة الجغرافيا لدى الشيعة في لبنان؟ هؤلاء الذين لم يكونوا يوما في المعادلة اللبنانية (معادلة لبنان الكبير)، وكان ان دخلوا حينا من احزمة الصفيح، حين عوملوا كما لو انهم زنوج الجمهورية، وحينا من احزمة النار، حين فوجىء العالم وفوجىء العرب، بأنهم دحروا اسرائيل. كتب عاموس اوز آنذاك عن «قوافل العار»، وسأل ما اذا كانت عيون الجنرالات قد صنعت من الخشب..
لطالما قيل ان الشيعة ضحايا التاريخ الذي سيظل يلاحقهم بالدموع الى يوم القيامة. في لبنان قد يكونون ضحايا الجغرافيا. كل الذين دخلوا في الببغائية القاتلة لا يدركون ان قدر الشيعة انهم يتاخمون اسرائيل، وما ادراك ما هي اسرائيل، في الجنوب، وان كان ثمة من يعتبر ان هذا الموقع ( او هذا القدر) الجغرافي هو الذي جعلهم يعيدون كتابة التاريخ بلغة اخرى و برؤية اخرى…
لا يستطيع الشيعي الا ان يكون جنوبيا، والا ان يكون فلسطينيا، والا ان يكون لبنانيا، والا ان يتحدى عندما يسهر على شرفة منزله على بعد امتار من بوابة فاطمة وحيث عيون الاسرائيليين تظهر كما لو انها صنعت من الاسلاك الشائكة. ولكن ألا يوجد بين الشيعة من يدعو الى عدم المغالاة في التماهي مع القضية التي يبيعها العرب، كما تباع الاواني المحطمة، على الارصفة؟
قيّض للشيعي ايضا ان يتاخم سوريا. شيعة البقاع الذين ليسوا فقط زنوج الجمهورية بل وزنوج الطائفة. ومن كان بين شيعة البقاع من لا يزور الجامع الاموي وضريح صلاح الدين الايوبي عندما يزور مقام السيدة زينب، وهي من زاوية محددة انتيغون العرب. الم تصرخ انتيغون، وهي مجللة بالسواد في وجه الملك الذي قتل شقيقها، وبعيدا عن المقارنة الميكانيكية هنا؟
كان الشيعة يغتسلون بذلك التاريخ الاخر في دمشق. ثمة عشق للمدينة، وسواء كان الرئيس هناك شكري القوتلي ام حسني الزعيم ام بشار الاسد. دمشق هي بوابة غرناطة، وهي بوابة بخارى وسمرقند. قبل كل ذلك هي بوابة القلب، دون ان تعنيهم الانظمة، وان كانت الظروف التي اعقبت اجتياح عام 1982، بكل ابعاده التراجيدية، قد فرضت نوعا معينا من العلاقة..
في هذا السياق، ودون ان تكون لنا اي علاقة بأي نظام، ماذا فعل العرب لمساعدة لبنان على ازالة الاحتلال الذي بقي لاغراض استراتيجية، وحتى ايديولوجية، معروفة؟ لم يفعلوا شيئا وقالوا بتحرير الارض بالقفازات الحريرية. كان على لبنان ان يقنع ارييل شارون بالانسحاب، وبعدما تم تفكيك الآلة العسكرية لمنظمة التحرير، وبكل وجوهها الفولكلورية بتبادل القبلات..
الايرانيون التقطوا تلك اللحظة، ولولا السوريون، هل كان بالامكان وصول رصاصة واحدة، قذيفة واحدة، الى من عقدوا العزم على اجتثاث الاسرائيليين حتى بعيون اطفالهم؟
تلك المرحلة هي التي بنت المواقف وبنت السياسات، ولا مجال لفكها او لتفكيكها، بعدما بدا ان لعبة الامم، ولعبة القبائل، في سوريا ابتعدت كثيرا عن تلك الكلمات الاخاذة (الحرية والعدالة والديمقراطية) التي سحرت السوريين و سحرت غيرهم، فهل كان النظام وحده من عمل على قتلها؟
قال لنا مفكر شيعي راحل «هذا قدرنا ان نكون جزءا من عذابات هذا الشرق»، وقال «ليعيدونا من حيث اتينا او من حيث طردنا، اي الى كسروان وجبيل، وهناك قد نكون مخلوقات اخرى»، قبل ان يستطرد «نحن خلقنا هكذا لكي نحلم ولكي نثور ولكي نتعذب».
ماذا لو بقي الشيعة في كسروان ولم يدفعوا الى تخوم سوريا والى تخوم فلسطين؟!
نبيه البرجي