هل سينعكس التصعيد المستجد بين طهران والرياض على حالة الاستقرار «الهشة» في لبنان؟ سؤال بدأت عدة سفارات غربية في بيروت بالبحث عن اجابات عنه، وسط قلق جدي من تاثيرات سلبية على مجمل الاوضاع الداخلية اللبنانية بفعل تغيير واضح في الاستراتيجية الايرانية التي انتقلت من «الدفاع» الى «الهجوم»، مقابل «تخبط» في السياسات السعودية، وهو ما قد يؤدي الى «دعسات» ناقصة تدخل البلاد في المجهول.
اوساط سياسية دبلوماسية متابعة لهذا الملف، لا تعتقد بان التحولات في السياسة الايرانية ستترك انعكاسات سريعة على الساحة اللبنانية، كما ان الرياض تعرف جيدا حدود قدرات حلفائها في لبنان، ولذلك لن تقدم على خطوات «انتحارية» تحرج الطرف الآخر وتدفعه الى ردود فعل لا يريدها، او لا يحتاج اليها في هذه المرحلة. كما ان السعودية لا تملك وحدها «مفاتيح» «اللعبة» اللبنانية وما تزال واشنطن شريكا فاعلا ومؤثرا في رسم سياسات هذا «المحور» لبنانيا، وما يدعو الى الاطمئنان راهنا، ان الاميركيين تحركهم رغبات اسرائيلية، لا يحبذون سقوط لبنان في فوضى قد تؤدي في نهاية المطاف الى فتح «الجبهة الشمالية» نتيجة حسابات خاطئة، وهذا ما يدفع واشنطن والغرب الى الاصرار على التمسك بالوضع القائم مع نصيحة تتكرر على مسامع الحلفاء الخليجيين بعدم التعويل على استثمار الساحة اللبنانية في الصراع الدائر مع ايران، لان النتائج غير مضمونة ولن تكون في كل الاحوال افضل مما هي عليه اليوم.
وهذا التحذير برأي مصادر في 8 آذار، يترافق مع تطمينات تتعلق بعدم وجود نية لدى حزب الله ومن خلفه الايرانيون «بقلب الطاولة» على الساحة اللبنانية، فوفقا لهؤلاء لا يطمح الحزب الى اكثر مما حصل عليه من نفوذ وقدرة على التحكم في المسار السياسي والامني في البلاد، فهو لا يواجه اي معارضة جادة ومؤثرة تدفعه الى تغيير مقاربته للملفات الداخلية والخارجية، وما يحصل عليه من «غطاء» سياسي في حكومة «المصلحة الوطنية» اكثر من كاف، فكل خصومه شركاء في الحكومة وهم يجلسون معه على «طاولة» واحدة، وكل تصريحاتهم وبياناتهم مجرد استهلاك اعلامي لا تغير من الوقائع شيئا، وهذا ما يجعل حزب الله راضيا على الحد الادنى الموجود من الاستقرار الذي يسمح له بالتفرغ لمهمته الرئيسية على الحدود الشرقية والجنوبية وفي داخل سوريا. لكن ماذا لو قرر خصومه «فض الشراكة» بنية كشف «ظهره»؟
لو كانوا يملكون القدرة لما تأخروا «دقيقة» واحدة، تقول المصادر نفسها لكن، ضعفهم وقوة الحزب، تشكلان ضمانة مرحلية تقلل من احتمالات استخدام ورقة الضغط على حزب الله في وجه ايران كرد على احداث اليمن التي افقدت السعودية «صوابها»، لكن محاذير المخاطرة بخسارة لبنان تبدو شاخصة امام عيون القيادة السعودية التي لم تفهم حتى الان كيف تمكنت مجموعة ترتدي «الجلباب» وتنتعل «الشباشب» من السيطرة على معظم انحاء اليمن دون مقاومة تذكر. فكيف اذا تكررت التجربة في لبنان مع حزب الله؟
يضاف الى ذلك ان المملكة فهمت متأخرة وبعد فوات الآوان ان طهران بدلت استراتيجيتها تؤكد الاوساط الديبلوماسية، ولم تعد تتعامل مع الاحداث وفق سياسة رد الفعل وانتقلت الى مرحلة «الفعل» والمبادرة، هذا ما حصل في العراق مع انخراط الحرس الثوري الايراني بقيادة قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني في المواجهات الميدانية في اربيل وفي محيط المناطق الشيعية، وهذا ما لمسته قبل ساعات بعد ان رفعت طهران الصوت عاليا في وجه تركيا، ودون «قفازات» هذه المرة، لتحذيرها من مغبة التدخل العسكري في سوريا. أما تضارب المعلومات حول دخول انصار الله الى مدينة الحديدة اليمنية ذات الموقع الاستراتيجي على البحر الاحمر والسيطرة على مطارها ومينائها ومرافقها الحيوية، فلا يغير من الوقائع شيئا، «فالكارت الاحمر» الايراني في وجه السعوديين، قد سبق وتم اشهاره منذ دخول صنعاء وتصعيد وزيرالخارجية السعودي سعود الفيصل قطع الطريق على حوار بناء ارادته ايران من موقع «الند للند».
وبحسب الاوساط الديبلوماسية، فان المملكة لا تزال غير قادرة على «هضم» هذا التحول الاستراتيجي في «حديقتها الخلفية»، فما يحصل في اليمن لا تعوضه كل المكاسب المرحلية في سوريا والعراق. فاستكمال انصار الله لسيطرتهم على مفاصل الدولة اليمينة وسعيهم للوصول الى الخط الساحلي وسيطرتهم على منفذ بحري مهم على البحر الاحمر، يؤمن لهم في المستقبل السيطرة على مضيق باب المندب، ولمن فاته علم «الجيوبولتيك» فلا بد من تذكيره ان اليمن يتمتع بموقع استراتيجي فريد، فهو يمسك بزمام مفاتيح الباب الجنوبي للبحر الأحمر، وهناك تداخل وثيق بين مضيقي هرمز وباب المندب، وهذا الأخير يمثل طريقا للناقلات المحملة بنفط الخليج العربي باتجاه أوروبا، كما يربط حزام أمن الجزيرة والخليج العربي، ابتداء من قناة السويس، وانتهاء بشط العرب. ومن هنا، يمثل اليمن ركنا أساسيا لأمن الخليج العربي وبوابته الجنوبية، فأي سيطرة ايرانية على هذه الممرات تعني خنق الرئة التي يتنفس منها الخليج العربي والجزيرة العربية، ليس فقط لأنها ممرات لناقلات النفط، إنما لأنها ممرات لاستيراد وتصدير السلع التجارية مع أسواق العالم الخارجية، وخاصة أوروبا وأميركا ودول الشرق الأقصى في آسيا. ماذا يعني ذلك؟
يعني بكل بساطة ان ما حاولت الرياض استثماره في سوريا والعراق دفعت ثمنه في اليمن تؤكد الاوساط الديبلوماسية، مع فارق جوهري كبير بين الاهمية الاستراتيجية لهذه الجبهات، وبعد ان كانت القيادة السعودية مرتاحة البال الى هدوء «جبهة» البحرين واخراج «جبهة» المنطقة الشرقية من قوس الازمات، وفق قاعدة ضمنية تقضي بتحييد الجغرافيا السعودية والايرانية عن المواجهة المباشرة، جاءت «النكبة» من حيث لا تحتسب، وفي ظل اوضاع دولية شديدة التعقيد افضت الى «تجاهل» اميركي للتطورات الدراماتيكية في اليمن، رغم التحريض السعودي المستمر، والتحذير من ان ما يحصل هناك بمثابة القنبلة الموقوتة في وجه الأمن الخليجي. تزامنا تشهد المباحثات النووية الايرانية مع الغرب المزيد من التقدم، ونجاحها يبدو بالنسبة الى الادارة الاميركية اكثر اهمية من سيطرة ايران على أكبر ممر دولي في العالم.!
هذه التطورات تضع السعودية امام خيارات صعبة تضيف الاوساط، بعد ان استنفدت معظم «اوراقها» في وجه الايرانيين في المنطقة، هي تمني النفس بوجود حلفاء لبنانيين قادرين على ممارسة ضغط جدي ومؤثر على حزب الله في لبنان، فهي اليوم باشد الحاجة لهذه «الورقة» لمقايضة الايرانيين على ملف اليمن، لكن «الرسائل» الايرانية جادة للغاية ولم تعد طهران تهاب المحاذير «المذهبية» السابقة، أوالخوف من «الفتنة»، في ظل الحرب المفتوحة ضد مصالحها الحيوية في المنطقة. «العين» الايرانية «الحمراء» قد تكون الاكثر تاثيرا في مجريات الاحداث وقد تمنع حصول «الانفجار» الكبير في لبنان، فـ«النهايات السعيدة» لاحداث السابع من ايار 2008 قد لا تتكرر في هذه المرحلة بعد كل «الخراب» الحاصل على امتداد «جبهة» محور المقاومة، واذا كانت التداعيات السياسية والامنية في البلاد بقيت محدودة حينها فلا ضمانات اليوم لتكرار المشهد، وقد تكون النهايات اقرب الى المشهد اليمني. واغلب الظن السعوديون سيحسبون خطواتهم على الساحة اللبنانية، وسيواصلون «الضرب» من «خلف ستار» المجموعات الارهابية. الا اذا قرروا الانتحار..
ابراهيم ناصرالدين