في غضون عام، خاض المسيحيون
ثلاث معارك سياسية تعنيهم مباشرة: الأولى هي معركة قانون الانتخابات الجديد التي
انتهت الى «اللاشيء»، وعمليا الى تعويم القانون النافذ المعروف بقانون الـ 60، والى
التمديد النيابي الأول بذريعة عدم التوصل الى قانون انتخابات جديد.
في تلك
المرحلة (صيف 2013) صار «تكوكب» للأحزاب المسيحية الأربعة المجتمعة تحت سقف بكركي
حول «قانون اللقاء الأرثوذكسي» الذي يعطي كل طائفة حق انتخاب نوابها وبما يؤمن
المناصفة الفعلية التي نص عليها الطائف ولكنها بقيت نصا من دون تطبيق.
ولكن
عقد الاتفاق المسيحي حول قانون الانتخابات الجديد انفرط قبل الوصول الى خط النهاية،
وجرى تحميل المسيحيين مسؤولية الفشل في وضع قانون جديد للانتخاب ومسؤولية التمديد
أيضا لأنهم لم يحددوا ماذا يريدون ولم يتفقوا على قانون.
المعركة السياسية الثانية هي معركة رئاسة الجمهورية التي انتهت الى فراغ وشغور
سدة الرئاسة. وهذا ما يحدث للمرة الثانية في مرحلة الطائف بعد فراغ العام 2007. هذه
المعركة انطلقت من اجتماعات في بكركي توصلت الى مبادئ وخطوط عريضة ضاعت لاحقا في
التفاصيل والأسماء.
وجرى تحميل المسيحيين أيضا مسؤولية عدم انتخاب رئيس
للجمهورية والوصول الى الفراغ بحجة أنهم لم يتفقوا فيما بينهم على رئيس أو على
لائحة أسماء لمرشحين منتمين الى فئة الرؤساء التوافقيين ومقبولين من القوى
والقيادات الإسلامية. وبدل الاتفاق حصلت مبارزة وتبادل فيتوات وترشيحات علنية
ومضمرة.
ولكن وضع كرة انتخابات الرئاسة في الملعب المسيحي، من قبل بري
والحريري اللذين كررا قول ما معناه «ليتفق المسيحيون على رئيس ونحن مستعدون للسير
به»، لم يكن يعبر عن واقع الحال والأزمة، ولا ينسجم مع الربط الذي أقامه بري
والحريري وآخرون بين انتخاب رئيس في لبنان وحصول التفاهم السعودي ـ الإيراني، وبما
يعني أن المشكلة ليست عند المسيحيين وإنما في مكان آخر، ولها صلة بتداعيات وتطورات
الصراع السني ـ الشيعي في لبنان والمنطقة، وبما يعني أنه حتى لو اتفق المسيحيون على
رئيس لا تنتهي المشكلة ولا يعني حكما انتخاب من يتفقون عليه.
المعركة السياسية الثالثة هي الدائرة منذ أسابيع حول التمديد الثاني لمجلس
النواب، هذا التمديد يرفضه المسيحيون الذين يستفزهم واقع أن التعطيل والفراغ يصيب
فقط رئاسة الجمهورية، فيما تظل كل المؤسسات الأخرى قائمة و«شغالة» عبر صيغ مختلفة
من التمديد الى تصريف الأعمال.
ويخشون أن التمديد لمجلس النواب الذي يعني
أيضا وعمليا تمديد عمر الحكومة للفترة نفسها يجعل السنة والشيعة يحصلون على ما
يريدون كل في موقعه و«رئاسته» فيما الموقع الماروني الأول شاغر ورئاسة الجمهورية
تدخل في غياهب النسيان والإهمال مع الاعتياد على الفراغ الرئاسي والتعاطي معه كوضع
طبيعي يمكن أن يستمر طويلا وليس كوضع استثنائي يجب ألا يدوم يوما.
ولكن
الرفض المسيحي للتمديد يظل في إطار «الموقف المبدئي النظري» ولا ترجمة له على أرض
الواقع السياسي، بعدما أصبح الوضع عمليا أمام خيارين واحتمالين: الفراغ أو التمديد،
في حين أن الخيار الثالث وهو الانتخابات سقط من الحسابات لتعذر إجرائها لأسباب
كثيرة آخرها وأهمها قرار المستقبل مقاطعة الانتخابات النيابية قبل انتخاب رئيس
الجمهورية، لأن الانتخابات في هذه الحال تقود أيضا الى الفراغ الحكومي.
الخيارات في السباق الرئاسي في مايو الماضي كانت ضاقت الى هذا الحد: الفراغ أو
التمديد (للرئيس سليمان) ولكن الفارق الآن أن الوضع الذي احتمل فراغا رئاسيا لا
يحتمل فراغا نيابيا الذي يعلن الفراغ الشامل والدخول في أزمة نظام، وبالتالي إعلان
سقوط اتفاق الطائف والذهاب الى تسوية جديدة.
النتيجة أن التمديد النيابي
صار خيارا محسوما وقسريا و«أمرا واقعا» أيا يكن الموقف المسيحي الذي لا يقدم ولا
يؤخر، وأن ثلاث ملاحظات يمكن استخلاصها من مسار هذه المعركة والمعركتين اللتين
سبقتاها (الرئاسة وقانون الانتخابات):
1- بكركي هي الخاسرة الأولى مما جرى ويجري إن على صعيد تضرر
مصداقيتها أو محدودية دورها وضعف تأثيرها في مجرى الأحداث وقبل ذلك على الساحة
المارونية ومع قياداتها.
2- ثمة ثغرة وفجوة في الأداء المسيحي السياسي وفي طريقة إدارة
المعارك والملفات ذات المصلحة المشتركة. فالتمديد النيابي يسير معهم ومن دونهم
وأيضا من دون مقابل، ولا يكفي هنا الربط بين إنهاء التمديد وانتخاب رئيس جديد مادام
معطوفا على ربط آخر بين إجراء الانتخابات النيابية وقانون جديد للانتخابات. وعلى
المسيحيين أن يوحدوا جهودهم للحصـول على ربـح وإنجاز إمـا في رئاســة الجمهوريـة أو
في قانون الانتخابات، في واحد منهما على الأقل.
3- المعادلة السياسية الداخلية قائمة على ثنائية شيعية ـ سنية
في حالتي الخلاف والاتفاق. وفي الحالتين يتلقى المسيحيون التبعات والنتائج. فإذا
حصل خلاف كما الحال في رئاسة الجمهورية، كان الخلاف على حسابهم، وإذا حصل اتفاق كما
الحال في التمديد، كان الاتفاق على حسابهم أيضا.
والواقع السياسي يدل على
تراجع الدور المسيحي والذي من علاماته شغور مركز الرئاسة الى أجل غير مسمى. في حين
أن التوافق السني ـ الشيعي هو الذي يحدد قواعد اللعبة وأهم ما فيها اليوم «استمرار
الحكومة» في إطار معادلة «الحكومة مقابل الأمن».
4- الاهتمام الدولي تقلص بموضوع رئاسة الجمهورية الى الحد
الأدنى، وهذا الاهتمام مركز حاليا على ناحيتين: استمرار الحكومة ومنع انفجار لبنان
وتمديد الحريق السوري إليه، وفي الموضوعين لا دور ولا تأثير يذكر للعامل
المسيحي.