ورد في القرآن الكريم ذكر الناصية – وهي مقدمة الرأس أو الجبهة _ في آيتين من سورة العلق، وربطت الأولى منها بين الناصية والتحكم في اتخاذ القرار، في قوله تعالى: {..
لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِية
}(سورة العلق:15). ووصفت الآية الثانية، ذات الناصية بالكذب والخطأ في قوله تعالى: {
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئةٍ
} (العلق: 16). ووصفتها آية أخرى بأنهامكان القيادة في المخلوق الحي وبها جماع أمره كله، قال تعالي: {
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
} ( هود:56). كما أشارت إلى هذا المعنى آيات أخرى وأحاديث نبوية كريمة.
يظهر العلم الحديث عدة حقائق عن ناصية الإنسان ودماغه يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1- دماغ الإنسان هو الأضخم: يعتبر دماغ الإنسان من وجهة النظر التشريحية، أضخم ما في مملكة الحيوان بالنسبة لوزن الجسم، لكن هناك ثلاثة حيوانات فقط تتمتع بأكبر وزن مطلق للمخ وهي: الحوت والفيل وخنزير البحر.
2- الفص الجبهي أكبر فصوص الدماغ: يتكون دماغ الإنسان من عده فصوص: الفص القذالى والجدارى والصدغى، وكما نرى في شكل (لسان العرب 15/327) فإن الفص الجبهي هو أكبرها على الإطلاق.
3- قشرة المخ هي الوزن أو الحجم الأكبر في الدماغ: يتكون حجم أو وزن دماغ الإنسان إلى حد كبير من المخ ( Cerebrum ) وعلى الأخص قشرة المخ (Cerebalcortex)، والتي يمثل الجزء الأكبر منها مناطق الربط الثلاث: منطقة الربط الجدارية الصدغية القذالية، ومنطقة الربط الصدغية، ومنطقة الربط الجبهية (شكل 1)
وتتكون النسبة الكبرى من مناطق الربط هذه من قشرة الفص الجبهي وامتدادها المباشر من قشرة المنطقة قبل الحركية ( Premotorarea)،وقشرة المنطقة الحركية الإضافية (Supplementary motor area ).
تكوين الألفاظ المنطوقة يقع في الفص الجبهي: إن التحكم في اختيار وتكوين الكلمات استعداداً للنطق بها يظهره شكل 3، حيث تختار الألفاظ في منطقة التلفيف الزاوي ثم تكون الألفاظ أو الكلمات المنطوقة في منطقة (بروكا) في الفص الجبهي الواقعة أمام الجزء الأسفل من القشرة الحركية (Primary Motor Cortex ) التي تتحكم في الأعضاء المتعلقة بالنطق، وهذا يدل على أن مفتاح التحكم في الكلمات المنطوقة هو في الفص الجبهي، للمخ أي في الناصية، لذلك فليس كل الألفاظ التي ترد إلى الذهن تظهر على اللسان، وذلك لمرورها على مركز تكوين الكلمات في الناصية، لذا فالإنسان محاسب ومسئول عما ينطق به لسانه طالما يستطيع التحكم في اختيار الألفاظ وأعضاء النطق وعلى رأسها اللسان. وقد أشار النبي إلى هذه الحقيقة بقوله: ” فأخذ بلسانه قال: كف عليك هذا……..” الحديث.
التوجيه الإرادي للنظر في اتجاه محدد يقع في الفص الجبهي: وهناك أيضا في الفص الجبهي ما يماثل منطقة (بروكا) من تلفيف القشرة الحركية وهي منطقة تختص بتحريك العينين ومنطقة فوقها تختص بتحريك الرأس في حركة دائرية وكلا المنطقتين توجه وتركز النظر في اتجاه معين وفق حركة إرادية. وهاتان المنطقتان توجهان قشرة الحركة الأولية (Primary Motor Cortex ) لإدارة الرأس وتركيز العينين في اتجاه محدد. إذاً فالتوجيه الإرادي للنظر يقع في الفص الجبهي أو الناصية، وهذا يتوافق مع ما أشار إليه النبي في حديث المؤاخذة على النظر المحرم للمرأة حين قال لعلى رضى الله عنه: ” يا على لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة “( رواه الترمذي ج 5/101 وقال حسن غريب) وفي رواية قال:” النظرة الأولى لك والآخرة عليك ” (رواه الطحاوي في شرح معاني الأثار ج 3/15 وهو حديث حسن) فالأولى فجائية ليس فيها تركيز وتوجيه، وإنما تقع المؤاخذة على النظرة الثانية الإرادية المحددة والموجهة.
– التحكم الإرادي لحركة جميع أجزاء الجسد يقع في الفص الجبهي: أثبتت الأبحاث أن المنطقة الحركية الإضافية والمنطقة قبل الحركية تعملان باعتبارهما منشئتين للوظيفة الحركية، وتخزنان برامج الحركة التي تعتبر جزءا من التخطيط الخاص بتحكم مجموعة معينة من العضلات على القيام بحركة طوعية، لذلك فإنه يمكن الاستنتاج أنه كما هو الحال فيما يتعلق بالنطق واختيار الألفاظ وتحريك الرأس والعينين ؛ فإن قشرة الفص الجبهي أو الناصية هي المختصة بالتحكم الواعي للقيام بعمل طوعي أو عدم القيام به، مما يتطلب تحريك بعض أو كل أجزاء الجسد.
التناسق بين حركة النطق وحركات الجسم يقع في الفص الجبهي: إن احتواء الفص الجبهي للمنطقة الحركية الإضافية والمنطقة الحركية الأولية تشير إلى التناظر ما بين منطقة (بروكا) المتعلقة بالسيطرة على النطق من جهة، ومناطق تحريك الرأس والعينين وبين المنطقة ما قبل
قشرة المخ في الفص الجبهي تتحكم في سلوك الإنسان: ولتأكيد هذا الاستنتاج نجد أن عدم وجود معظم قشرة الفص الجبهي في الحيوانات يظهر أثره في السلوك الحيواني، فحاسة الشم تثير السلوك الجنسي مباشرة، وكذلك السلوك الغذائي والنشاط الحركي المتعلق بهذه الوظائف، أما بالنسبة للإنسان فلابد من اعتبارات ومعلومات تم تخزينها وترسيخها مسبقاً في وظائف قشرة الدماغ، خاصة في مناطق الربط، بالإضافة إلى الوظائف الحوفية الغرائزية، قبل أن يقع السلوك الجنسي أو الغذائي أو أي سلوك أخر، مع ما يتبع ذلك من القيام بأعمال حركية أخرى بالأيدي أو الأرجل أو أي أجزاء أخرى من الجسم كحركة العين للرؤية، وحركة اللسان بالنطق، وهكذا يكون الخيار بالقيام بعمل أو عدم القيام به مركوزاً في مناطق الحركة الإرادية في الفص الجبهي ذو المساحة الشاسعة من قشرة الدماغ، خاصة في مناطق الربط فيه.
كما أشار القرآن الكريم إلى أن الأشياء المسموعة والمبصرة والمدركة بالفؤاد تصب كلها في محل التحكم في السلوك واتخاذ القرار التي تنبني عليها المسئولية في قوله تعالى:(
إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولـَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
) [الإسراء آية 36] وهذا يتوافق مع ما سبق من حقائق في هذا الموضوع.
فصل أو تلف الفص الجبهي يؤدى إلى اضطراب الشخصية في الأقوال والأفعال: أثبتت الأدلة الإكلينيكية (السريرية) أن تلف الفص الجبهي أو فصله يؤدى إلى فقدان المريض التحكم في سلوكه الاجتماعي، والمقدرة على استعمال الألفاظ، مع تغييرات كبيرة في معالم الشخصية، حيث تنقص قدرته في التركيز وروح المبادرة والتحمل، وعلى حل المشكلات التي تحتاج لقدرة عقلية متميزة، وتتأثر قدرة المريض على الحكم على موقفه فيفقد الشعور بالمسئولية نحو نفسه كما تحدث بعض التغيرات العاطفية فيبدى المريض علامات الابتهاج والرضا عن النفس كما يفقد اهتمامه بمظهره الاجتماعي وقد يعانى من هبوط في المعايير الأخلاقية. وقد أخذ هذا كدليل قوي على وظيفة قشرة ما قبل الجبهة في التحكم في الجوانب الأكثر تعقيداً في السلوك البشرى.
بقياس تدفق الدم في قشرة المخ: أصبح من الممكن في السنوات القليلة الماضية قياس تدفق الدم في قشرة المخ أو أجزاء أخرى منه عن طريق النظائر المشعة والرنين المغناطيسى الوظيفي وقد استخدمت هذه الوسائل في دراسة الوظائف العليا للدماغ خاصة في مجال وظائف أجزاء الدماغ المختصة باللغة التي هي من خصائص الإنسان، وقد تبين من هذه الدراسات: أن الفص الجبهي يزداد تدفق الدم في عدة مراكز منه عند التفكر في معاني الكلمات، وعند النطق بها، بينما يزداد النشاط في مناطق الإبصار في مؤخرة الدماغ عند التعرض إلى بعض الحروف كشكل كلمة لا معنى لها (شكل 5 ).
بناء على ما سبق نصل إلى الاستنتاج بأن التحكم في الحركات والأفعال الإرادية تكمن في الفص الجبهي وأن البرامج الحركية تزود بها القشرة الحركية من الفص الجبهي من خلال القشرة قبل الحركية. ومن المعروف أن قشرة الدماغ هي المكان الذي يقوم بجميع الوظائف الواعية أو الإرادية الحركية وعليه فإنه يمكن القول باطمئنان: إن قشرة الفص الجبهي هي المسؤولة عن إرسال القرار الحركي الإرادي لأجزاء الجسم. بما في ذلك حركة اللسان بنطق الألفاظ، وحركة الرأس والعينين لتركيز النظر في اتجاه وغرض محدد، بناء على ما ترسخ فيها من معلومات مسبقة والتي تتمثل في فطرة الله أو فطرة الإيمان، وما اكتسبته من معلومات خارجية أخرى لتوجيه وضبط السلوك والتصرفات. لذلك يمكن أن نقول: إن حمل أمانة التكليف أو حرية الاختيار للأقوال والأفعال تكمن في الفص الجبهي للمخ أو الناصية والله أعلم.