لا يستطيع احد ان يتنبأ بما ستنتهي اليه هذه الاحداث المتلاحقة التي لا يدري المتورطون في رسم خريطة طريقها ان يغامروا او يقامروا بادعاء معرفة نتائجها، علما ان بين المقامرة والمغامرة نقطة على حرف واحد ينصح الحكماء والعقلاء، بتجنب الخوض في التجارب على ضوئها، بناء على المقولة الصائبة القائلة «ليس المغامر محمودا وان سلماً» وحتى على الصعيد الفردي او الشخصي، فكيف اذا كانت المقامرة او المغامرة تطال مصائر الامم الاخرى او العالم بأسره!!
ولكن القراءة الموضوعية التي تحتاج الى الدقة والتعمق لا بد ان تستند الى الوقائع الماضية والحاضرة واستخلاص ما يمكن استخلاصه من عبر، تجعلنا نستقرئ الاحداث والرؤى على بصيرة علماً ان اجهزة الرصد حتى المناخية والتي تحسب بالدقائق والثواني امكانيات ما يستجد مناخياً على نحو غير مرئي ولكنه علمي، فان اجهزة الرصد تقع في اخطاء مميتة احياناً وإلا لما وقعت كوارث الاجواء المناخية في البر والجو والبحر ولدرجة ان المواطن في اكبر البلدان المتقدمة في الرصد والتكنولوجيا مثل الولايات المتحدة، فانه يقال عن انسان يكثر من عدم المصداقية عن غير قصد او حتى عن كذب متعمد بانه «اكذب من نشرة الطقس»! ولذلك نلتمس ممن يقرأ او يستمع للنبوءات المستندة الى نبوءات سياسية تكون بدورها اكثر اعتماداً على الوقائع الثابتة الملموسة او المشهودة بانه اقل وقوعاً ليس في الخطأ او سوء التقدير ليس فقط في الامور المخيفة او السلبية فحسب، بل حتى في الامور المرجوة التي يتعطش فيها المرء للايجابيات حين يقول: «لو علمت من الغيب لاستكثرت من الخير»!
ومع ذلك فاننا جميعا نحب الاستكثار من الخير ولو لم تمنحنا القدرة العليا على علم لاغيب، فلنا مع نظرية «تفاءلوا بالخير تجدوه»، ولكننا في الاوضاع التي يمكن ان توصف «بالبابلية (نسبة لبرج بابل)» حيث يختلط فيها الحابل بالنابل وتضيع فيها الحقائق بين الهرج والمرج المحلي والاقليمي والدولي، لا بد ان نحاول صيانة عقولنا الى الحد الادنى الممكن من اضاعة الاتجاه حتى ولو كانت الاوضاع تحتمل بدورها الحد الادنى من مواصفات البوصلة السياسية.
وما دمنا قد اتينا على ذكر برج بابل والاحداث الخطيرة في العراق، فلا نجد اولى من البدء ببلاد برج بابل العراق الشقيق حيث ادت الثغرة الفاغرة فاها لاستنفار «زعيمة العالم الحر» جميع الدول التي درجت على تلبية رغبات ونداءات البيت الابيض الاميركي خاصة ذات الطابع العالمي، فان التاريخ سيسجل ما حدث من ديفرسوار الموصل، بانه الثغرة التي «نجم فيها قرن الفتنة» والتي «تحكمه» فيها شبح الغول الداعشي المتمثل بمن يصح تسميتهم بـ «مغول العصر» حيث اختلط فيه الدوس على لحوم البشر وخاصة المجردين من الحول والطول والسلاح ويطالهم تدمير ممتلكاتهم وارتكاب الفظائع، حتى الفتك بعقائدهم واديانهم ومقدساتهم مع ما تحوله آبار البترول من «اكسير» الطاقة الاسود تحت سلطة هواة ذبح المخلوق البشري الذي وصفه سيد البلغاء تكريماً له بأنه اذا كان يحسب نفسه حنفا صغيراً انطوى العالم الاكبر. قد سلط عقلنا ورجعنا الى ادنى من مستوى الحيوان الاعجم وكأنه يجسد فهم ابي الطيب المتنبي لطبيعة هذا الانسان الغريب الاطوار حين قال عن الانسان حيث يجرد من عقله الذي وهبته اياه القدرة العليا فانه يصبح اقل شرفاً من الحيوان:
لولا العقول لكان ادنى ضغم الى شرف من الانسان
ولقد وعدنا انفسنا ووعدنا القارىء بان يكون الموضوع شاملا للاوضاع خاصة في سوريا وعلى ضوء ارهاصات ما يجري في الشقيقة الكبرى مصر من تحولات ايجابية ومضيئة تبعث على التفاؤل رغم اجواء العتمة التي تحيط باكثر من قطر من اقطار الوطن العربي الاكبر بدءاً من عتمة الكهرباء في لبنان وحدادا من جراء الذل الذي اوقع فيه بعض المتآمرين المحليين نفسه قبل غيره، الجيش الوطني اللبناني الباسل والذي اشد ما ابتلي به انه ممنوع من اظهار «قدرته وبطولته» ولو المحدودة في الدفاع عن كرامة الوطن دون ادنى شعور من «ارباب الوقاحة السياسية»، بالاخطاء المتعمدة لاسماء الذين هم وراء الأكمة ولا يتم التصريح باسمائهم وهم اسوأ في معطياتهم الحضارية من «ذباحي» ابرياء البشر مع فارق في الشكل بانهم يرتدون ياقات منشاة والتي مسخ اسمها وشوه رسمها واعادتها الى عصور متاخمة للعصر الحجري. كما ان التوقف عند ارهاصات ما يجري في لبنان يجب الا يمنعنا من استعراض بعض شريط «المذبحة السياسية» الدامية من جانب التكفيريين ومشغليهم وطمس ما مضي من جرائم العدو في غزة، ولعل التعجيل في الحملة العالمية التي ترفع شعار محاربة داعش والتي تقوم من اجلها الدنيا ولا تقعد، كانت في نظرنا حتى ولو كنا قاصرين عن فهم اسرار «المؤشرات» حولها، مع هذا سواء المدروس منها والعشوائي وعمليات استدراجية ولعل الجهة التي توجهت اليها الانظار بالغمز واللمز والتشكيك والتي عاد اليها الذين حاولوا اظهارها بمظهر التشفي ولم يدركوا ان مصر في عهدها الجديد، يستطيع قائدها الهمام ادارة الحكم دون ان يكون منحازاً لاعداء قضايانا وانه قد مضى عهد التبعية، بل جاء عهد العودة الى الينابيع الوطنية الصامتة والقرار الوطني المستقل. ولو امعنا النظر بموقعين امنيين متكاملين للرئيس المصري الذي لم تنتخبه الملايين بل احتضنته واوصلته باهداب عيونها الى حيث يتولى بأمانة الانسان الاصيل ادارة شؤون الدولة الشقيقة الكبرى، ونحن نحتسب لاحد سياسيينا جنبلاط الذي طالما انتقدناه ولا زلنا على استعداد لانتقاده انه فطن لاهمية الاطلاع على هذه الظاهرة الايجابية الجديدة في حياة مصر الكنانة، بينما كنا نلح على سواه من شخصيات لها ثقلها على الساحة السياسية ان تبادر حتى قبل تولي «المنصب الاول» مشيراً ليس للجيش فقط بل المقبول كمشير للشعب بل الرافض لكل عمل سياسي لا يؤدي الى النهوض بمصر حتى تكون كما سبق ان قال انها على قدر مواكبة النهوض الكوني نحو النهوض الذي لا يتحقق بدونه اي سلام للمنطقة والعالم، وهو يكاد يكون الوحيد من حكامنا العرب الذي يستطيع ان يحقق امكانية التعامل الايجابي مع شقيق يتبرع بزكاة اموال وعائدات الطاقة لبلد جاهز بجيشه وشعبه لحماية الامن القومي ليس لدول الخليج فقط بل ان مفتاح على شراكة بلد اسلامي مجدد لدول الخليج يحاول ازالة سوء التفاهم بينه وبين البلد الذي وضع القدر في عهدته الكعبة المشرفة التي تتجه نحوها انظار مئات الملايين في يوم الحج الاكبر، دون ان ينسى للرياض المبادرة المالية مع بقاء القرار الحر لمصر. بحيث توجه مشيرها الى روسيا، قبل وصوله الى الرئاسة وحظي باعجاب الرئيس بوتين، حيث اقدم المشير عبد الفتاح دون تردد او عقد نفسية على الاستفادة من الروابط مع بلد اسلامي وذي تاريخ عريق هو ايران وان يكون لديه من الثقة بالنفس، بحيث يستطيع اذا اراد من اجل مصلحة مصر والعرب ان يبني افضل العلاقات على اساس مصلحة البلدين والعمق المتناول لدور مصر مع ايران، ان يشكل مع ايران ومع تركيا اذا امكن قوة مؤثرة من اجل حماية الشرقين الاوسط والادنى في كبح سياسات السيطرة وروح الهيمنة والعمل على اعادة يقظة الضمير الى الدول التي تسعى لتقاسم خبرات المنطقة كأسلاب توزع بين الدول التي تتعامل مع دول عريقة ذات حضارة مشهود لها عالميا، وكأنها ارض سائبة، بحيث تجيز دولة عظمى مثل الولايات المتحدة لنفسها ان تسمح ديموقراطيتها بأن يقدم رئيسها مشروعا الى الكونغرس – حتى قبل غزو العراق بأكثر من سنة – يقضي بتقسيم بلد عربي مثل العراق ذي دور عربي رائد طوال التاريخ وخاصة تاريخه الاستقلالي الحديث دون التشاور مع شعب العراق، ودون استئذان من احد، بل بناء لالتزامها بحفظ كيان منذ عدة عقود فقط في قلب المنطقة العربية وهذه الواقعة الفضيحة والخطيرة ليس المسؤول عن تمريرها بسهولة ولو لمجرد طرحها، هم معظم الساسة العرب الذين لم يتحركوا لاستطلاع خطر هذا الاستهتار بسيادات الدول الشقيقة في حين كان من اضعف الايمان ارسال وفد سياسي وبرلماني موحد بحيث يكون ممثلاً لكل الاقطار العربية (والاسلامية اذا امكن) الى الولايات المتحدة والاجتماع الى اعضاء الكونغرس وعقد المؤتمرات الصحفية لاطلاع الرأي العام الاميركي على حقائق الوضع واقعيا وتاريخيا واوجه الظلم التي يعاني منها الفلسطينيون والعرب وخطر تجاهل ارادتهم والانحياز السياسي الاعمى للكيان الذي عرف العالم مؤخرا جوانب صارخة من طبيعته العدوانية ودوسه على كرامة الانسان وحقوقه الطبيعية.
واذا كنا قد تحدثنا عن ديفرسوار الموصل الذي فتح «باب الشر» من جديد على مصراعيه في المنطقة والاقليم والعالم بأسره، فاننا مضطرون ان نصارح الاشقاء العراقيين على ضوء موقف الحكومة الجديدة – دون ان يعفي رئيس الوزراء السابق من المسؤولية – لأن مجرد طلب تدخل اجنبي سواء بالطيران او بالحشود البرية والبحرية «لمساعدة» بغداد في الحرب على داعش، وهو امر يضعف ويربك الموقف الشعبي العربي الرافض لكل نوع من انواع التدخل ولا بد للذين هم على اتصال بأصحاب القرار وخاصة المتعاطفين منهم مع قضايانا العادلة، ان يحاولوا الضغط على الادارة «الاوبامية» لكي تعتمد سياسة متوازية وغير منحازة بشكل تغمض فيه العينين عما تفعله اسرائيل وان يحاولوا اقناع على الاقل اذا كانوا يرجون اسرائيل طول البقاء، ان تبدأ التخلي عن الارض التي حددها قرار التقسيم للفلسطينيين او ان تغير من طبيعتها الاشد سوءا ووحشية من الطبيعة الداعشية! وهي تتصرف وكأنها تضرب موعد نهايتها التي يتمناها لها اعداء بقائها المظلومين على يديها والذين حرمتهم حق الحياة اضافة الى الذين اغتصبت بيوتهم او دمرتها، وبدلا من ان تتصرف بشعور بالذنب فانها تلعب دورا يتسم بالطغيان والاستبداد والوقاحة والتصرف مع العرب تصرفاً اشد بشاعة وقبحا مما تفعله الدولة الداعشية وكل منهما تبدو كأنها في بأس ينبع وما الحملة الدولية ضد داعش الا غطاء مزيفاً لوحدة المسار والمصير وتكامل التكفير مع «التعبير»! (اي جعل فلسطين عبرانية ولو كان بعلمها، وهو امر لن ترضاه السماوات والارض).
محمد باقر شري