ذات يوم دعينا الى محاضرة للعقيد معمر القذافي في دمشق حول الجيوبوليتيكا. دخل علينا بملابس رومانية، وبوجه مغلق. القى علينا التحية من الاعلى لكأنه يلقيها علينا من المريخ. لا ابتسامة على الاطلاق، ولا ادري ما اذا كان قد رآنا ام رأى المقاعد خالية…
بصورة كاريكاتورية تقمص شخصية القيصر، وراح يرسم خارطة بهلوانية لـ«الفضاءات الجيوبوليتيكية» التي رأى اعتمادها لتعود الكرة الارضية الى توازنها. ولم يكن قد بلغ به الطموح حد اقتراح آليات جديدة للنظام الكوني، وراح يبعثر الجغرافيا ويبعثر الناس كما لو ان احدهم يبعثر قطعان الماعز…
لم نفهم آنذاك ما اذا كانت ليبيا على حدود تونس ام على حدود الدانمرك، حتى انه بحث في الوضع الجيوبوليتيكي للولايات المتحدة وارتأى اعادتها الى الهنود الحمر. وبدا ان الحاضرين كلهم لم يفهموا ما يقوله باستثناء اولئك الذين كانوا يعتاشون منه. آنذاك ذهلت، وصدمت، وانا ارى الشاعر السوداني محمد الفيتوري الذي قال في جمال عبد الناصر يوم رحيله «انا محض جوهرة بين يديك» يقف بيننا ليصدح بقصيدة غزل بحضرة القائد.
وكان القذافي قد منح الفيتوري الجنسية الليبية (الثورية) وعيّنه سفيرا للجماهيرية. ذهب الشاعر بعيدا في الغزل حتى ظننا انه يصف صوفيا لورين او هند رستم لا ذاك الرجل الذي كان اشبه ما يكون بتمثال احد القياصرة، وقد فعلت الازمنة بالوجه الرخامي ما فعلته..
الآن ماذا يفعل الاسلاميون سوى انهم يلعبون بهلوانيا بالخرائط. انهم يقلدون القياصرة ولكن باللحى و العمائم. اما مجلس الشيوخ فهو مجلس المشايخ الذي تقشعر لفتاواه الابدان بل وتسقط الابدان، ومعها الرؤوس ارضا…
ايها الاسلاميون، نرفض مصطلحكم الخادع «العالم الاسلامي» لان التاريخ يعمل بطريقة مختلفة عن الايديولوجيا، ولاننا نعيش في عالم مركب، وبهويات مركبة، الا اذا كنتم تنظرون الينا على اننا، فعلا، قطعان من الماعز. لنا شكلنا، ولنا ثقافتنا، ولنا سلالتنا التي تبقى هكذا وحتى نهاية الدنيا…
حتى راشد الغنوشي الذي قيل لنا انه يخلط، جدليا، بين رينيه ديكارت وحسن البنا وبين ايمانويل كانط وسيد قطب، كان يبدو، في بعض مواقفه بل في مواقف محورية كما لو انه آت للتو من تورا بورا. صنّف التونسيين بالمؤمنين وغير المؤمنين. هل تتصورون ان «الاخوان المسلمين» يفكرون تحت عباءاتهم، بالاحرى تحت جلابيبهم، بصورة تختلف عن ابي مصعب الزرقاوي او ابي بكر البغدادي…
تحية لتونس ولاهل تونس الذي ازعجوا رجب طيب اردوغان بعدما كان يعتقد ان القارة العربية، من سوريا الى مصر، ومن مصر الى المغرب، باتت داخل الحقيبة العثمانية. الآن، يراهن السلطان على السطو على سوريا. ثمة صفقات تبحث وراء الضوء، ولكن اين هم «الاخوان المسلمون» في سوريا. اصبحوا «الاخوان العثمانيين» على ضفاف الدردنيل او تقطعت بهم السبل او توزعوا في الولاء بين ابي بكر البغدادي وابي محمد الجولاني…
اذا كانت هذه الديمقراطية، فالديمقراطية قالت كلمتها « لا للاسلام السياسي» الذي لا يتقن سوى لعبة المشانق وسوى لعبة السواطير، لتتشكل حالة جيوبوليتيكية جديدة. مصر وتونس، وبينهما ليبيا التي، وقد تمزقت اربا اربا، تكاد تقع في الغيبوبة الكبرى بعدما كان اردوغان اياه يتصور ان اسلاميي ليبيا، بما لديهم من مال وسلاح، سيبتلعون مصر و يتقاطعون مع راشد الغنوشي في ذلك الطريق السحري الذي يقود الى جامع الزيتونة في مدينة تونس…
المصريون والتونسيون هم من ينقذون ليبيا ليس من الغيبوبة فحسب بل ومن الهلاك ايضا. طول الحدود مع مصر 1150 كليومترا، ومع تونس 459 كيلومترا، ولا ننسى حدودها مع الجزائر التي تعاني ما تعانيه من الاسلاميين( 982 كيلومترا)، ودون ان تقول صناديق الاقتراع كلمتها في من يحكم تونس بعدما اظهر الاسلاميون من الغطرسة ما اظهروه. صناديق الاقتراع قالت شيئا اخر، وهو قيام وضع جيوستراتيجي يحول دون تمدد البؤر الفوضوية، والقبلية، في ليبيا الى ما وراء الحدود…
اكثر من ذلك بكثير. لا يستطيع عبد الفتاح السيسي ان يكون لمصر وحدها، ولا تستطيع تونس ان تحمي نفسها من الاسلاميين الذين يتقنون الحفر في العتمة. قد نكون الآن امام تعبير فرنسوا ميتران «قوة الاشياء» التي تفرض واقعا منطقيا (واستراتيجيا)، حتى اذا ما استعادت مصر دورها في المدى الافريقي لا بد ان تستعيده في المدى الآسيوي وحيث سوريا تتقطع، وحيث العراق يتقطع، فلماذا لا يواجه السيسي اردوغان (كما واجه محمد علي باشا السلطان محمود الثاني)، ويرفع صوته بدل ان يبدو وكأنه مسكون بهاجس (وبشبح) الاخوان المسلمين..
قلنا ذات يوم ان تفكيك الاهرامات في مصر قد يكون اسهل من تفكيك المشكلات. ولكن، ها ان تونس اعطت، بصناديق الاقتراع لا بالدبابات، الدليل على ان « الاخوان» يتقهقرون. فليتقدم رئيس مصر الى ليبيا، وليتقدم الى سوريا، وليتقدم الى العراق اذ ماذا يبقى من ارض الكنانة، ولارض الكنانة، في حال سقطت هذه الدول او تعثرت او تبعثرت؟
عبد الفتاح السيسي خلع ثيابه العسكرية. لكأنه رجل آخر و يخشى ان يتقدم وحيدا. تقدم…
نبيه البرجي