بعضُ ما رآهُ الحلاّجُ ولَمْ يَقُلْهُ
من ديوان: يومًا ما سَأُكْمِلُ هذا النّشيد
الرّؤيا الأولى
الرّغبةُ صراطٌ دائريٌّ
لا يعرفُ الاكتمالَ
تأهُّبُ الحواسِ
وهي تدكُّ قلاعَ الخيالِ
في معركةِ الأطيافِ
واستنفارُ الأعضاءِ
وهي تستجيبُ لنداءِ الإغواءِ
لكأنَّ الرّوحَ في ضآلتِهَا
قد غَدَتْ
في منزلَةٍ بينَ اشتهائينِ
إقبالٌ حثيثٌ
إذْ تندَلِعُ فوضاهَا
في هشيمِ الأجسادِ
وإدبارٌ شحيحٌ
وهي تنفُضُ جناحَيْهَا
ممّا عَلِقَ فيها
من طفيليِّ التَّشهِّي
وتَمخُرُ عبابًا بعيدًا
في سماء بيضاءَ مجلوّةٍ
هناكَ
فوقَ غيمِ الذّكرياتِ
الرّغبةُ
مُنتَصَفٌ حياديٌّ
تحفّزٌ محضٌ
وصرخةٌ مدوّيَةٌ
من قاعٍ ما مُبهَمٍ
من هاويَةٍ ما صاعِدَه
على سلالِمِ الحَيْرَةِ
فاغرةُ الدَّهشةِ كاشتياقٍ
ومُظلِمَةٌ كحنينْ
الرّغبةُ انتقامٌ جميلٌ من الأنوثةِ
التماسٌ خاطئٌ للجمالِ
وامتناعٌ عذْبٌ عن التّأويلِ
الرّغبةُ فيضٌ
يشحُّ إذْ يكتمِلُ
هو غابةُ أصداءْ
وتعويذَةٌ تقي الصّوتَ من فرادَتِهِ
الرَّغبةُ لونٌ
تشحُبُ العينُ من كثرَةِ التّحديقِ بِهِ
الرَّغْبَةُ فتنةُ النّارِ
وهي تروّضُ الماءَ ليسْكُنَهَا
إذّاكَ ينطفئُ جمرٌ
كأجملِ ما في الاحتراقِ من رمادْ
الرّؤيا الثّانية
(1)
الفارقُ بيني وبينَ أبي
أربعونَ نهرًا
وحينَمَا نلتقي
نتنازَعُ كلينا على حصّتِهِ من العبورِ
فهلِ الماءُ شحيحٌ إلى هذا الحدِّ
لكي لا نغتسِلَ بِهِ سويًّا؟؟
أم أنَّ يدًا أوديبيّةً خبيثةٌ
تعبَثُ بنا
كي لا يُغرِقَ كلانا الآخرَ؟؟
(2)
أبدًا نحيا بينَ ماضيينِ
ماضٍ تكشفُ فيهِ الذّاكرةُ عن سوأَتِهَا
وتُكَاشِفُنَا
لقدْ مرَرْتُم مرَّةً من هنا
فلا تغضّوا الطّرفَ كثيرًا
فما عدْوُكُمْ
إلاّ جهدًا مُضاعفًا
لتمريرِ الذّكرياتِ
عبرَ ممرٍّ خفيٍّ للأمَلِ
تسمّونهُ الغدَ
والغدُ ماضٍ مُرْتَجَلٌ
تكاليفُ باهظةٌ
تقتطِعُهَا من حسابِ العمرِ الجاري
حيثُ الموتُ يُقاضيكَ
وأنتَ تُنْفِقُ الأيّامَ بلا حذَرٍ
وحدُهُ الكونُ مصرِفٌ يمدُّكَ بالأمَلِ
مهما تعاظَمَتْ خسائرُكَ
شريطةَ أن ترتَهِنَ لديهِ دومًا
لحظَتَكَ الحاضرةَ
(3)
الخسارةُ الأكبرُ
أن تُجوِّدَ أحلامَكَ دائمًا
لغةٌ واحدةٌ
وأنثى واحدةٌ
وذاتٌ واحدةٌ
فما بينَ القطعانِ والقطيعةِ
قد تتشابهُ المصائرُ
ذاتَ جناسٍ ناقصٍ
لكنّها لا تتّحِدُ!!
(4)
” النّاسُ نيامٌ إذا ماتوا انتبهوا”
تُرى هل ضلّلتنَا أحلامُ الأنبياءِ إلى هذا الحدِّ؟
يبدو أنَّ السّيِّدَ قد استراحَ تمامًا
منذُ اليومِ السّابعِ
وغطَّ في نومٍ عميقٍ
(5)
عجبًا كيف تنسُجُ أمّي كفنَهَا
ببرودِ حفّارٍ
ويقينٍ ناصِعٍ
كلُّ ما تلوي عليهِ الآنَ
وليمةُ جسديّةٌ مُنتقَصَةٌ
بعدَ تمدُّدِ الشَّيبِ في عروقِهَا
ووليمةٌ سيُكْمِلُهَا آخرونَ
ربّما نحنُ
ربّما أحفادُهَا
وهُمْ يشربونَ نخبَ رحيلِهَا
(6)
منذُ بدءِ التّكوينِ
ونحنُ نكتبُ المراثي
عن أرضٍ ضيّقةٍ بحدودِ الوهمِ
وننشرُ الأملَ
خبرًا مُعلَّقًا
على حياةٍ قادمةٍ
وغابَ عنّا
أنَّ الشّمسَ لن تُشرِقَ يومًا
في مكانٍ آخرَ…
(7)
أعظمُ ما في الأسيادِ
أنّهم صنعوا تاريخًا مجيدًا لخطاياهُمْ
وَحَمَلْنَا وزْرَهَا بصمتٍ
فلُعبةُ العُبورِ من الإثمِ إلى القداسةِ
تحتاجُ قطيعًا مؤمنًا بضرورةِ نحرِهِ
قربانًا لخطيئةٍ أولى
وحدُهُ الشّاعرُ هنا لا يُمكنُ أن يغدوَ سيِّدًا
لا لشيءٍ
إلاّ لأنّهُ يبحثُ عن الإثمِ في قداسَتِهِ
(8)
كمْ تنقَّلْتُ بينَ بيوتِ اللهِ
فلم أجدْهُ
وحينما أُبْتُ إلى أوراقي
وجدْتُهُ بانتظاري
يُشعِلُ لي قنديلَ الكتابةِ
ويُسَافِرْ…
(9)
لو أنَّ الزّمنَ يسيرُ بصورةٍ عكسيّةٍ
لعَرَفْنَا كيفَ يلتقي الأزلُ بالأبدِ
(10)
وحدُهُ الضّوءُ
لا ينيرُ ظلمتَهُ أحدٌ
(11)
أجملُ ما في الموتِ
أنّكَ لن تنالَهُ
ما لم تمنَحْكَ إيّاهُ الحياةُ
الرّؤيا الثّالثة
(1)
ليلاً
ينهضُ موتَانَا من نومِهِمْ العاجيِّ
يتنزّهونَ في أروقَةِ أحلامِنَا
بعضُهُم يَفتَحُ معنا
حوارًا مشروعًا عن الزّوالِ
فنُشاطِرُهُ الأبديّةَ بالسّؤالِ
وإذا ما احتَجبوا
أو تراجَعُوا نحوَ قبورِهِم
فليسَ لأنَّهُمْ رحلُوا
بلْ ليُكمِلوا حديثًا مستَتِرًا لهم
مع المقبرَه
(2)
بين موسى والبحرِ
علاقةٌ ملتبسةٌ
فلا هو خلعَ نعالَهُ
أو نضَا عنهُ قميصًا باليًا
ولا البحرُ استراحَ من ملوحتِهِ قليلاً
كيما يستدرجُهُ بالماءِ العذبِ
فلا عجبَ إِنْ ألقى موسَى مراسي الأحلامِ أخيرًا
وركبَ الطّوفانْ
فهوذا يشقُّ دربًا في ذاتِهِ
نحوَ ألوهةٍ ناقصه
والبحرُ يعودُ أدراجَهُ إلى أمّهِ الغمامْ
وما بينَهُمَا عُلِّقَتْ عصًا
صارتْ في عُرف اللّغةِ
علامةَ استفهامْ!!
(3)
تبادلَ الجلاّدُ والضّحيّةُ الأدوارَ يومًا
لحظاتٌ
انقلبتِ الضّحيّةُ على نفسِهَا لتفتَرِسَ جلاّدَهَا
أمّا الجلاّدُ
فأخذَ يتأمَّلُ ضحاياهُ برفقٍ
ولمّا لم يجدْ مكانًا لهُ بينَهُم
استشاطَ حنينًا
حتّى تلعثمَ السّوطُ في يدِهِ
فجلدَ نفسَهُ
(4)
من دونِ دليلٍ فلسفيٍّ
يُودي القاضي
برمشةِ حبرٍ
الجناةَ إلى غُرَفِ الموتِ المُغلَقه
والشّاعرُ يزجُّ بأفكارِهِ
وهي تُدلي باعترافٍ شعريٍّ
وراءَ قضبانِ اللّغةِ
وما الفارقُ
إلاّ أنّ القاضي
يُقفِلُ ما تبقّى من ملفّاتِهِ
بأحكامِهِ المُبرَمَه
أمّا الشّاعرُ فيعودُ ليُسائِلَ ضحاياهُ
وقد تضرجْنَ بالكلماتِ
بصمتِهِ…
(5)
ما الّذي يجعلُ من السيِّدِ سيّدًا
أن يكونَ غيرَ ما أُريدَ لهُ أن يكونَهُ
اقرأْ فلا يقرأُ
يموتُ فلا يُصلَبُ
ويشهدُ في منتهى الوحيِ
وقد ضيّعَ كتابَهُ
أن لا شيءَ ليُبلَّغَ
(6)
للشّاعرِ موعِدٌ دائمًا
مع قصيدةٍ مُرجأةٍ
وإذا ما اكتَمَلَتْ
فتلكَ أطيافُهَا
تنامُ بينَ دفتينِ سوداوينِ
وتزيّنُهَا هوامشُ بيضاءُ
وربّما اتَّسعَتْ قليلاً
فوَجَدَتْ ما يُسْعِفُهَا
وإذا ما جاورَتْهَا رفيقاتُهَا
ذيَّلَ الشّاعرُ باسمِهِ
تلكَ الأعمالَ النّاقصه
فمنَ قالَ أنّ جبريلَ
عادَ أدراجَهُ إلى مملكةِ اللهِ
والكتابَ اكتمَلْ؟؟؟
(7)
وهوَ يُعطي
يخالُ كلَّ من في الأرضِ دائنَهُ
وأنَّهُ مدينٌ للاأحدْ
أبدًا هناك حصّةٌ منقصةٌ من نصيبِ القلوبِ عندَهُ
وهوَ يفتحُ أبوابَهُ للجميعِ دونَهُ
فإنْ شئت ألاّ تفقِدَهُ
فحاذِرْ
أن تردَّ له الجميلَ يومًا!!!
الرّؤيا الرّابعة
(1)
لا تُفتِّشْ في جيبِ وردَةٍ
عن فائضٍ في العطرِ
ملأتِ الكونَ بعبيرِهَا
وهي بالكادِ تملِكُ أن تشمَّ نفسَهَا
(2)
لو جرّدْتَ البحرَ من مائِهِ
لاتّخذَ شكلَ غمامه
(3)
ليسَ في النّاياتِ
سوى قصبٍ يتأوّهُ
حنينًا لأشكالِهِ الأولى
(4)
النّهرُ نعشُ الماءِ
تحمِلُهُ الضّفافُ
والبحرُ مقبرَه
(5)
العريُ أجملُ من الاحتجابِ
ما دامَ عُريًا
لا تخدُشُهُ حتّى يدُ المرايا
(6)
الشّمسُ وشمٌ من ضوءٍ
فوقَ ساعدِ السّماءِ
(7)
ليسَ من حكمةِ الضّوءِ
أن يُبدِّدَ الظّلامَ
بل أن يجعَلَهُ أكثرَ التباسًا
(8)
تُرى لو كان الربُّ أنثى
هل كُنتَ لتجِدَ مُلحِدًا واحدًا
(9)
ما حاجتي بكَ ما دُمْتَ لا تُخطئُ؟؟
الرّؤيا الخامسة
(1)
بين الاسمِ والإثمِ
شاعرٌ ينقشُ
فوقَ جدرانِ الخطيئةِ
بإزميلِ الاستعارةِ
قصيدَتَهُ الأولى
(2)
ليلٌ حالِكٌ
ضنَّ بنجومِهِ
فمَنْ يصيخُ السّمعَ
لمخاضِ الأرضِ
وهيَ على أُهبَةِ النّزيفِ
أو يرى في الشَّمسِ الآفلَه
بهلوانًا تأخَّرَ عن موعِدِ السّقوطِ
وهوَ يرقُصُ عاريًا
فوقَ حبلِ الزّوالِ
كلُّ شيءٍ يشي باكتمالِ العدَمِ
فرحماكَ ربّي هلْ آنَ الأوانُ؟؟
في حضرةِ العرشِ
ضوءٌ خافتٌ
ينسابُ عليلاً من قنديلِ ملاكٍ
يحارُ كيف يُرتِّبُ فضاءَ الخُلْدِ
ليَدْفَعَ عن سيّدِهِ هذا السّأمْ
(3)
محضُ إشراقٍ أنَا
جُرمٌ نورانيٌّ
مُحْلَوْلِكُ الأبعادِ
والأصلُ رايةٌ مُنَكَّسَةُ الظِّلِ
حيثُ لا ابتداءْ
إنّمَا هو انكشَافٌ مُضارَعٌ
مخاضٌ للتكوينِ
في رَحَمِ الآنَ
والماقبلُ ربّاهُ؟
قدسُ أقداسِ الالتباسِ
فيضٌ مُبْهَمٌ
خارجٌ على التّأويلِ
وعصيٌّ على الظّنِّ
عنقودُ كشفٍ تدلّى
من غُصنِ امّحاءْ
(4)
وحيدًا أينما تلفّتي أُدْرِكُني
أنا الجهاتُ
ووجهي مُقْفِرٌ كبدايه!!
كأسي محضُ امتلاءْ
فأنَّى لي أنْ أَشْرَبَنِي؟
أنْ أُقَايِضَ هباءَ اكتمالي
بالقليلِ من ماءِ النُّقصانِ
وأنَّى لمرايا الآبادِ
الّتي وحَّدَتْنِي
أن تُكَثِّرَني
أن تَجْعَلَني أَحْتَفي بقتلايَ
على الدَّربِ المُمتَدِّ بيني وبيني
حتّى إذا طالعْتُني في وجْهِ سوايَ
حدَّقْتُ فمَا عَرَفْتُني!!
(5)
للآلهةِ اغترابُهَا أيضًا
كصوتٍ مهدورٍ
من ألفِ جُلجُلَه
أبدًا أخلُقُ ما ليسَ لي
كأنّي وجودي وضالّتُهُ
أَفْتَحُ جُرْحًا في أَقْصَايَ
فيَلْتَئِمُ من فورِهِ
بين كُنْ وما تكونُ أنايَ
فباللهِ عليكَ يا نرجِسُ
أخْبِرْنِي
كيفَ تنحَني
لتُصَافِحَ وجْهَكَ
فوقَ مرايا الماءْ؟؟
(6)
وطَافَتْ في خاطِرِ ربِّكَ
آيةٌ من سورةِ الخَلقِ
فتبارَكَ نزيفُ الخيالِ
وهو يخطُّ صفحاتِ التّكوينِ
بأَسْفَارِ هذي الحكايةِ
(7)
عجبًا
كيفَ استَحَالَ الاسمُ مُسمّى
وهو يجسُّ نبضَ الأرضِ
بحثًا عن تاليهِ
فلم يرِثْ آدَمُ من صوتِهِ إلاّ صداهُ
أتراهُ عصيًّا على الامتلاءْ؟
أم هو تمامُ العرشِ
الّذي لا يتَّسِعُ إلاّ للنُقْصَانِ
وبَدَلَ أن يفيضَ عن بهاءِ اكتمالِهِ
احتَجَبْ!!!
لابأس
فالرّيحُ إذْ تَقْرَعُ ذاكرةَ الشّتاءْ
لا يُجيبُهَا
غيرُ رجعِ هذا المطرْ
(8)
قمْ تهجّأْ
يا سادِنَ الفصولْ
أبجديَّةَ الجّهاتِ
وغُصْ بي نحوي
وهات لي اكسيرَ الرّؤيا
مُعتَّقًا في كأسٍ بتولْ
أَرْشِفُهَا ذاتَ انخطَافٍ
فأفيقُ من سكرَةِ الأَبَدْ
فما يُبقيكَ هو عينُهُ ما يُفنيكَ
لا عجبَ
فالشُّطآنُ لا تُصيخُ السَّمَعَ
لنِدَاءِ البَحْرِ
ما لمْ تُفْنِ الموجَ
بما يُشْبِهُ الزَّبَدْ
(9)
كذبَ الأسيادُ ولو صدقوا
فلا عجبَ إنْ اتَّبَعَهُم الغاوونَ
سيّدٌ يرثُ أسمائي في الأرضِ
ويمحوهَا بكفِّ حنينهِ
لأَنْ يصيرَ إلهًا
ويبْتَكِرُ صليبًا
يليقُ بخطاياهُ
في الدَّربِ الأخيرَه
إلى مُبْتَغَاهُ
أو تعجبُ بعدَهَا
كيفَ يموتُ ولا يَموتْ؟؟
وآخرُ يعبثُ بالأسماءِ
فيقرأُ على نَفسِهِ
ما تيسَّرَ من آياتِ فتنتِهِ المُضَاعَفَةِ
في سُوَرِ الهباءِ
أنا آخرُ الأسيادِ
ولي من نساءِ الأرضِ ما يكفي
لأشيِّدَ فوقَ عريهِنَّ
مملكةَ الآبادِ
وأمزجَ خيطَ الدَّمِ النّازفِ
فوقَ صفحاتِ الوحيِ
بقرطاسِ الشّهودِ
للّهِ درُّكَ
هذا كتابي
حُرِّمَتْ عليهِم الخمرُ
فاسقنيهَا
واملأْ ما استَطَعْتَ
من نبيذِ الخطايا
ولا تسلْ
في فوضى القيامةِ
عن سيّد أضاعَ الطّريق إلى مبتداهُ
ولا تُصدِّقْ
أنَّ آخرَ الأسماءِ أوّلُهَا
فلا شيءَ أبعدُ من هذا الخواءْ
للتواصل مع الكاتب عبر صفحته على الفايسبوك: