“لكأن التاريخ يضيق بنا ونضيق به…” حين يكون شيعة لبنان بين آلام التاريخ وآلام الجغرافيا
بعيداً عن فوضوية فائض القوة بين الحين والآخر. ما حدث في جنوب لبنان أكثر من أن يكون معجزة. الأرمادا العسكرية التي لا تقهر وهي تلوذ بالفرار أمام رجال ترعرعوا على أنين الأرض، وعلى صراخ الأرض. ولكن أي مستقبل للشيعة في لبنان، والمنطقة تمضي أكثر فاكثر في صراع الكراهيات، وفي صراع الايديولوجيات؟
منذ 2500 عام لاحظ هيرودوت أن الشرق الأدنى يقع على خط الزلازل. الشيعة داخل هذه الزلازل. قدرهم الجغرافي أنهم وجدوا في الجنوب، وقدرهم التاريخي أنهم على خط التماس مع ذلك الشكل المروع من البربرية…
هل هم، بحد ذاتهم، مشكلة، حتى لكأن صواريخهم تدق (وتدك) أبواب البيت الأبيض؟ لا دولة هناك لتحميهم، ولا حالة عربية استطاعت ارساء الحد الأدنى من التوازن مع اسرائيل بالرغم من التفوق الديموغرافي (والجغرافي) الهائل، وبالرغم من التريليونات التي توزع أكثرها بين ليالي ألف ليلة وليلة والبنوك النيويوركية، وبالرغم من الترسانات التي تفوق الخيال.
هنا دولة باعت الجنوب، وأهل الجنوب، لياسر عرفات الذي قال لنا مخاتير احدى القرى “لم نكن ندري ما اذا كان يقاتل من أجل تحرير فلسطين من الاسرائيليين أم كان يقاتل من أجل تحرير لبنان من اللبنانيين”. هذه قضية مقدسة وابتليت بقادة من طراز أبو الهول وأبو الزعيم وأبو الجماجم، في مواجهة دولة صنعها رجال من طراز تيودور هرتزل وحاييم وايزمان ودافيد بن غوريون وغولدا مئير.
كصحافي، عشت ميدانياً، ويومياً، معاناة سكان الجنوب، بالطوائف كافة، من عشوائية، وبداوة، وفظاعات، الفصائل التي على مدى 13 عاماً، بين توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 وعملية “سلامة الجليل” عام 1982، لم تهز أي رأس في اسرائيل. كيف لهؤلاء أن يفعلوا ذلك اذا كان قادتهم، وتحت الثريات، غارقين في الملذات، وبين المليارات، ليبقى فلسطينيو المخيمات في ذلك البؤس الميتولوجي؟
كانت مضحكة، ومريرة، في آن تلك اللافتة التي علقها أحدهم “اهلاً بالعدو الاسرائيلي الغاشم”، بعدما سكنته تجربة “الشقيق العربي الغاشم”، ليرث آرييل شارون ياسر عرفات في التنكيل بأهل الجنوب، وبأرض الجنوب، وفي التخطيط للاستيلاء على الدولة اللبنانية ان بالدبابات أو بالنصوص الملتبسة لاتفاق 17 أيار (1983).
هل كان يفترض بالجنوبيين أن يتعايشوا مع العار أم كان يفترض بهم القتال لاجتثاث الأقدام الهمجية من قراهم، ومن مدنهم، ومن حقولهم ؟ بعبقرية الدم فعلوا ما تقتضيه عبقرية المكان. ذاك تراب لبنان، ويبقى تراب لبنان…
البعض كتب عن التراجيديا الشيعية في دولة عرجاء، ويحكمها، الا في ما ندر، رجال لا يتعدى خيالهم خيال الدجاج لنكتشف، أخيراً، أنه خيال قطاع الطرق.
مسلسل القتل، ومسلسل الاقتلاع، ومسلسل القهر، على مدى قرون، وبأيدي الغزاة من كل الأنواع. حتى أن الشيعة بدوا في القرن التاسع عشر، وهو بوابة القرن العشرين، وكأنهم “يتامى الأمم”. كل أمبراطورية تبنت طائفة بعينها لتتولى حمايتها، ومساعدتها. الشيعة بقوا أوراقاً في مهب الريح.
هم ثائرون بطبيعتهم. لاحظوا أن ما من أمبراطورية، ما من دولة، في التاريخ ، باستثناء جمهورية أفلاطون، الا ومشت فوق الجماجم. انتموا الى الأحزاب الثورية (أغلبها مزيج من الفانتازيا الايديولوجية والفانتازيا القبلية) ليكتشفوا أنهم يقاتلون طواحين الهواء…
هنا امتدت اليهم يد ايران التي لا بد، وكأي دولة محكومة بالتاريخ، أو بالايديولوجيا، تبحث عن دور جيوسياسي في منطقة مشرعة على الفراغ، ان لم نقل مشرعة على اللامعنى .
هكذا منطق الأشياء ما دام العرب أما دخلوا في “الحالة الاسرائيلية” أو هم على وشك الدخول، ودون اغفال الأخطاء التي اقترفها بعض قارعي الطبول في ايران، وما دام ملوك التوراة ينظرون بعين حمراء الى الجنوب، والى أهل الجنوب.
أجل، منطق الأشياء وقوة الأشياء، ان يبقى الشيعة حملة الآلام. آلام التاريخ وآلام الجغرافيا!!
الديار – نبيه البرجي