تلاحقك الأحداث التي تجري في بلدة عرسال البقاعية اللبنانية ، كمثل الذنب الذي يخز الضمير. تستجوبك هذه الأحداث بتهمة «عدم المساعدة في إنقاذ شخص يتهدده خطر الموت».قد يقول قائل هنا إننا في بلاد تتفسخ، وأن القتل لا يعتبر فيها بالضرورة جريمة، حيث تختلف المعايير في أغلب الأحيان بحسب القاتل والمقتول دون النظر في دوافع القتل.
لم يكن الجيش اللبناني في دائرة الضوء كما هو الآن منذ ظهورمسألة بلدة عرسال على خلفية إنفجار الأزمة في سوريا . كان الغموض مخيما خلال الحروب اللبنانية، وتحديدا في بداياتها، بسبب تداخل وإختلاط العوامل الوطنية اللبنانية، القومية العربية، قضية الإستعمار الصهيوني في فلسطين . لم يكن من السهل مواجهة هذه القضايا جميعها دفعة واحدة. يستتبع ذلك أنه ليس مستبعدا أن تكون بعض الأطراف قد إنتحلت صفة المقاومة أو الثورة الإصلاحية لغاية في نفسها أو في نفس مشغلين أجانب. كان الموقف أكثر تعقيدا من وجهة نظري أثناء الغزو الإستعماري الإسرائيلي للبنان سنة 1982. ولكن يبدو أن قرار السلطة السياسة آنذاك كان عدم التصدي لمقاومة العدوان واحتلال جزء من الأراضي اللبنانية. مهما يكن فإن الغوص في تفاصيل هذا الموضوع ، مسألة فيها شجون، لا يتسع لها هذا الموضع.
الرؤية أوضح في عرسال. هناك غزو كمثيله سنة 1982 . ولكنه غزو تنفذه جماعات من الإٍسلاميين المتطرفين، أسماؤهم داعش، جبهة النصرة، ولدوا عن جماعات القاعدة التي قاتلت في أفغانستان ضد الإتحاد السوفياتي، لحساب الولايات المتحدة الأميركية، ثم إنقلبت هذه الأخيرة عليها . فكان ما كان في بلاد الأفغان. من البديهي أن غزو لبنان، من قبل جماعات الإسلاميين هو تمدد لحالة تبدأ جغرافيا عند حدود إقليم كردستان العراقي، ولا أعتقد أنها تنتهي في عرسال، مرورا بشمال سوريا.
المفارقة أن السلطة السياسية اللبنانية، المتمثلة بالحكومة الحالية، قررت حيال هذا الغزو أيضا عدم مواجهة الغزاة ذودا عن البلاد وعن النــاس الذين اتخذوا منها موطنا. لن أستطيع هنا إيفاء الموضوع حقه . لذا سأكتفي بمقاربة أولية .
منذ إندلاع الأزمة وإشتعال الحروب تحت مسميات مزيفة ، تترسخ قناعتي بأن الإنتماء إلى الوطن مسألة جدية بل هو مسؤولية تقع على كاهل جميع المشاركين فيه، إعتمادا على أن الوطن شراكة وبالتالي هو مصلحة جمعية، في الحاضر والمستقبل . هذا يعني ضرورة توفير ظروف العيش والبناء والانتاج في الراهن بالإضافة إلى استباق ما قد يطرأ من تطورات بسبب المتغيرات والمتبدلات المحتملة . جميع هذه الأسس ، ضعيفة او لا أثر لها.
إعتمادا على ما تقدم فإن مسألة عرسال أو بالأحرى الفاجعة في عرسال تبطن في ثناياها من وجهة نظري، تساؤلات كثيرة عن الوطن والهوية والوجـود في أبعاده المادية والثقافية والوجدانية.
أول هذه التساؤلات هي في معنى أن ترى في المساء على شاشة قناة تلفزيونية جنديا لبنانيا على الأرض اللبنانية تمسك به جماعة من الأشخاص ملثمين … يرتدون زيا غريبا ، ثم ترى الجندي نفسه جثة هامدة، مذبوحا أو مقتولا رميا بالرصاص ثم يذبح ، بالتلازم مع إقتباسات من الأدبيات الدينية . أحيانا يتخلل التكبير والتهليل الحفل الدموي.
من البديهي أن جميع أهل عرسال ليسوا ضالعين في جريمة الذبح والقتل، التي وقعت بحسب الأخبار، في بلدتهم أو بأيدي أو تواطؤ بعض من سكان بلدتهم . السؤال في الحقيقة يتعلق بما هو مشرك، أو بتعبير أدق، بما تبقى من المشترك، بين المجرمين والقتلة من جهة وبين الذين يرفضون سلوك نهح الأخيرين.
تعترضك في سياق هذه المقاربة معطيات تتعدى في الواقع حدود بلدة عرسال اللبنانية . لماذا أرسلت أطراف ناشطة حزبيا، على الساحة اللبنانية وفودا ومساعدات عينية ومالية إلى عرسال ؟ لماذا مورست الضغوط وقطعت الطرقات، للتأثيرفي عمليات الجيش ضد المسلحين الذين هاجموا واحتلوا مواقعه، وقتلوا عددا منهم وأسروا عددا آخر .. لماذا يتجمع المصلون، أمام بعض المساجد في مدينة طرابلس، بحسب الأنباء التي تناقلتها بعض الصحف، ويهتفون تأييدا «للدولة الإسلامية» .. مجمل القول أن مناصري «الدولة الإسلامية» لا يتواجدون في أغلب الظن، حصرا في عرسال، ولكنهم موجودون أيضا في أماكن أخرى في لبنان . فهل يريد هؤلاء المناصرون ما تريده داعش وجبهة النصرة؟ في هذه الحال ما هو مصير المشترك الوطني ، والأمة الوطنية؟
السؤال الثاني، الذي لا مفر منه ، هوعن موقف الجندي اللبناني نفسه من أحداث عرسال. وتحديدا من المشهد الذي يظهر فيه رفيقه، المختطف المقيد المقتول؟
ما يهم أكثر في هذا السياق، هو موقف السلطة السياسية المحير، التي يبدو أنها قررت النأي بنفسها في مسألة تغلغل الجماعات المسلحة، من «داعش» وأخواتها، في المجتمع اللبناني وتمددها على الأرض اللبنانية.
الخيار صعب بين تفسيرين لفهم موقف السلطة اللبنانية : إما أن هذه السلطة هي في أفضل الأحوال حيادية غير منحازه في المواجهة على الأرض اللبنانية، بين داعش من جهة وبين الذين يرفضون سيطرتها على جزء من الأراضي اللبنانية وشريعتها من جهة ثانية، وإما أن هذه السلطة تحاول بشتى الوسائل، ومن ضمنها إنتصار وصول سلاح المكرمات والهبات من فرنسا والولايات المتحدة الاميركية، ان تبرر تقاعسها عن التصدي للغزاة القادمين من الشرق العربي، أمام المواطن اللبــناني في عرسال وخارج عرسال، العسكري والمدني بالعــجز، وليــس بالتقــصير، وبالتالي لا حول لنا ولا قوة … إلا الإستسلام لإرادة داعش، والإنضمام إلى دولتها الإسلامية .
لا جدال في أن المسؤولية عن هذا كله تقع على السلطة السياسية بجميع طوائفها ومذاهبها وأحزابها. أن الوطن لبنان هو ملك للبنانيين جميعا بصفتهم لبنانيين فقط ، دون أخذ طوائفهم ومذاهبهم وعقائدهم بعين الإعتبار . لا يدهشن أحد إذا سمع لبنانيا يقول لولده، يا ولدي فلان وصحبه نافقوا في الدين فأسروا الوطن واشتروا به الثروة.
ثريا عاصي