لن تكسروا إرادتنا، وما لم تأخذوه بالقوّة لن تأخذوه بالمفاوضات.
هذا ما قاله كل أهل غزّة سكّان ومقاومون، فالمشهد الذي رأيناه خلال أيام الهدنة عبّر عن عنفوانٍ كبير ونصرٍ مبين، من بين الركام وخلال انتشال جثث الشهداء، قالت غزّة كلمتها.
مستمرّون، لن ترهبنا طائراتكم ولا دبّاباتكم ولا جيشكم الذي انقهر واندحر تحت ضربات المقاومين.
غزّة بقسميها فوق الأرض وتحتها، هل انتصرت؟
اذا اضطرينا فإنّنا سنردّ عبر الجوّ، وربما نلجأ الى عملية بريّة محدودة، هذا هو لسان حال أغلب الصهاينة من سياسيين وخبراء.
ما استطاع الجيش الصهيوني فعله في غزّة لم يتعدَّ القتل والتدمير، فكلّ أهدافه المعلنة وغير المعلنة لم يتمّ تحقيقها سوى ما أعلنه الجيش الصهيوني عن تدمير بعض الأنفاق.
ومع سقوط حوالي 1900 شهيد وحوالي 8000 جريح وتدمير أكثر من 10 آلاف منزل، كيف يمكننا أن نعتبر أنّ غزّة انتصرت؟
الإنتصارات التي تحقّقت عبر التاريخ كان المنتصر فيها هو الفريق الأكثر تضحية، وفي التاريخ الحديث العديد من الأمثلة كالإتحاد السوفياتي والجزائر وفييتنام وغيرها من البلاد التي دفعت أثماناً كبيرة حتى تتحرّر من نير الإحتلال.
عاملٌ آخر من عوامل النصر هو قدرة الفريق المدافع والأقل تجهيزاً على منع العدو من تحقيق أهدافه المعلنة، ما يعني إلزامه التراجع والإنكفاء عبر صياغة معادلات صراع جديدة ومختلفة عن تلك التي يحاول المعتدي فرضها بقوة الردع، من خلال استخدام القوّة المفرطة واللامتناهية والتي باعتقاده يمكنه من خلالها إخضاع المعتدى عليه وكسر إرادته.
ما جرى في غزة كان بامتياز معركة المفاجآت والمعادلات التي ستغيّر نمط الصراع في المراحل القادمة.
وإن لم تحقّق “”إسرائيل”” أيًّا من أهدافها، فما هي نتيجة هذه المعركة التي قاربت الشهر، وماذا حقّقت المقاومة الفلسطينية على المدى القريب والبعيد، وماذا يمكن أن تفعل، وهل من مفاجآت أخرى بانتظار الصهاينة جيشاً ومستوطنين؟
أولاً: ساسياً
1- استطاعت المقاومة أن تدير المعركة في ظل حالة من إلغاء الخلافات وتغليب العناوين الكبرى على التفاصيل الخلافية.
2- تحرّك الضفة الغربية عبر مواجهات شملت القدس في مواجهة الجيش الصهيوني.
3- إدارة المعركة الإعلامية بشكلٍ جيد عبر نقل نتائج القصف الصهيوني ووحشيته وهمجيته، ممّا غيّر في مزاج الكثير من الشرائح الاجتماعية والسياسية في أميركا وبريطانيا.
4- رسائل قادة المقاومة الفلسطينية وأهمّها رسالة جنرال المقاومة الفلسطينية محمد الضيف ورسالة الجنرال قاسم سليماني، وقبلهما رسالة السيد حسن نصرالله، هذه الرسائل التي وُجّهت باتجاهين:
أ- اتجاه خاص بمحور المقاومة والتأكيد على وحدة التوجهّات والإجراءات.
ب- باتجاه الكيان الصهيوني الذي فسّر الرسائل جيداً وعلِم أنّه أمام استحقاقات جديّة.
ثانياً: عسكرياً
1- امتلاك المقاومة عامل المبادرة، حيث تحكمت غالب المرات بمسار الميدان وفرضت على العدو مكان الكثير من المعارك “”البؤرية”” حيث كان يتّم جذب قوات العدو الصهيوني الى بقعة قتال معدّة مسبقاً.
2- فشل سلاح الجوّ في تدمير بنية المقاومة الفلسطينية واقتصار دوره على قتل المدنيين وتدمير الأبنية والمنشآت.
3- الفشل الاستخباراتي الفاضح الذي لم تتمكن من خلاله استخبارت العدو من تحديد أهداف عسكرية أو أماكن تواجد غرف العمليات والقادة السياسيين والعسكريين.
4- عمليات خاصة خلف خطوط العدو من خلال استخدام الأنفاق التي كانت عامل رعب دائم لجنود العدو، بحيث لم يعد هناك مواقع متقدمة ومواقع خلفية ما يصبّ في إرهاق جنود العدو من خلال وضعهم بحالة الاستنفار الدائم، وأهم هذه العمليات كانت عملية زيكيم التي نفذتها وحدات من الضفادع البشرية وصوفا وناحال عوز.
5- استخدام الصواريخ بمختلف عياراتها ومداها بوتيرةٍ ثابتة، حيث طالت أكثر من 50 تجمّع سكني صهيوني أهمّها تل أبيب وغوش دان.
6- قصف مواقع صهيونية نوعية كمفاعل ديمونة وقواعد صواريخ أريحا أرض – أرض المتطورة.
7- استخدام الطائرات بدون طيار ووصول إحداها الى أجواء وزارة الدفاع الصهيونية ما يشكّل خرقًا كبيرًا لمنظومة الدفاع الجوي الصهيونية.
8- فشل منظومة القبّة الحديدية في اعتراض الصواريخ وخصوصاً المتوسطة المدى، بالإضافة الى فشل نظام تروفي في حماية الدبابات من ضربات صواريخ الكورنيت.
9- أسر جندي صهيوني سيساعد في مفاوضات لاحقة حول تبادل الأسرى.
ثالثاً: اقتصادياً
1- إغلاق المجال الجوي لكلّ أشكال الملاحة الجوية وتوقيف حركة الطيران والمسافرين في كل المطارات الصهيونية وعلى رأسها مطار بن غوريون.
2- تعطيل موسم السياحة بشكلٍ كامل.
3- تخفيض الإنتاج في بعض مصانع البيتروكيماويات خوفاً من استهدافها.
4- شبه شلل في البورصة الصهيونية وانخفاض أسعار الأسهم.
5- الكلفة المباشرة وغير المباشرة للحرب التي تجاوزت الـ5 مليارات دولار.
رابعاً: نفسياً
1- اختلال ثقة المستوطنين بقيادتهم السياسية وبقدرة جيشهم على تأمين الأمن الموعود، ما يُسقط مقولة مناعة المجتمع.
2- إلزام أكثر من 5 ملايين صهيوني على النزول الى الملاجئ في كل مرّة تُعلن فيها حالة الإنذار، وإبقاؤهم في حالة الرعب والهلع الدائمة.
3- انكسار هيبة الجيش وانقسام الصهاينة حول وضع الخطط والتوجهات وحالة الإرباك الكبيرة في صفوف القيادات العسكرية والسياسية.
ختاماً: هي المرّة الأولى في تاريخ الصراع، تخرق فيها المقاومة الفلسطينية الهدنة بعد انتهائها نظراً لعدم وصول المفاوضات الى المكان الذي يحقق للمقاومة أهدافها وزيادة الضغط على قيادة الكيان.
هي المرّة الأولى أيضاً التي تبدو الأمور بغير صالح الكيان الصهيوني ولمصلحة المقاومة.
والسؤال الأخير هو، هل المقاومة قادرة على حفظ الإنتصار الذي تحقّق؟
بالتأكيد الجواب هو نعم، فالظروف مختلفة والمعادلات تغيرت، والإرادة تتبلور نحو الحسم أكثر، وهذا مشروط بتفعيل وحدة محور المقاومة وزجّ طاقاته في الإتجاه الصحيح.
عمر معربوني**ضابط سابق (خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية).
“