لمّحنا في مقالات سابقة إلى أن لبنان مرآة المنطقة العربية. يكفي المراقب أن يتفحص جيدا المشهد اللبناني ليتعرف على أصول ودلالات كثير من الأحداث التي تجري في بعض الأقطار فضلا عن الفرضيات التي يجيز لنا المنطق أن نأخذ بها في موضوع التوقعات المحتملة على المدى المنظور.
بناء عليه، من المرجح أن الكشف عن جانب مهم من لغز ما يسمى «داعش» أو «الدولة الإسلامية»، ممكن من خلال فاجعة بلدة عرسال. أقول فاجعة ليس فقط تأسفا على الدماء التي سفكت أثناء إعتداء الإٍسلاميين، من داعش وأخواتها، على مواقع الجيش اللبناني، ولكن لأن هذا العدوان أظهر أيضا أمام الملأ بلوغ إنحلال المجتمع الوطني اللبناني درجة متقدمة. وبالتالي لا يمكن إعادة اللحمة بين أجزاء الكيان المفكك الا بواسطة عنف الدولة الوطنية. وهذه الأخيرة ليست موجودة في الراهن إلا في عالم الخيال.
أن الجماعات الإسلامية التي أشرنا إليها أعلاه، تضم في صفوفها لبنانيين من عرسال ومن خارج عرسال، بنسبة الثلث تقريبا إستنادا إلى تقديرات بعض الخبراء. الثلثان إذن هم من السوريين أو من جنسيات، لا سورية ولا لبنانية! لقد استفادت هذه الجماعات أثناء الصدام المسلح الذي وقع في عرسال بينها من جهة وبين الجيش من جهة ثانية، من تأييد وتضامن تيار ناشط في وسط اللبنانيين «من السنة». تمثل ذلك على سبيل المثال لا الحصر، بقطع الطرقات إحتجاجا على منع إيصال المساعدات إلى عرسال. تلزم الملاحظة هنا، أن هذا الحراك الإحتجاجي لم يشمل طبعا، جميع الذين يصنفون أنفسهم «سنّة». أعتقد أن الكثيرين في لبنان وأنا منهم، يرفضون أن يــُنمّطوا على طائفة دينية أو مذهب من المذاهب. أغلب الظن أن «شريحة كبيرة من السنّة» اذا جاز هذا التعبير، التزموا الصمت. فهم لا يحبذون النهج الذي تسلكه داعش وجبهة النصرة ومن لف لفهم. أغلب الظن أن هؤلاء «السنّة» يفضلون غضّ الطرف عن الجرائم التي يقترفها الإسلاميون، الذين يقاتلون ضد الحكومة السورية وضد حزب الله. بين «السنة» وبين هذين الأخيرين، الحكومة السورية وحزب الله، خلاف وهمي في الواقع. لا أساس له على الإطلاق. ولكن صُوّرَ لهم، أن جذوره ضاربة في تاريخ الدعوة الإسلامية. مرده إلى التنافس على الخلافة بعد وفاة النبي. يستتبع ذلك، بحسب الذين صوروا وأوهموا أن الخلاف بين «السنة» و«الشيعة» هو خلاف نهائي، على قاعدة الزعم بأنه خلاف في العقيدة الدينية، وليس نزاعا على السلطة.. كأن إنتقال السلطة في الدولة الإسلامية، منذ أن وجدت هذه الأخيرة، لم يتقرر في أغلب الأحيان بواسطة صراع دموي، ليس فقط بين أتباع المذهب الواحد، ولكن بين الأشقاء في العائلة المالكة نفسها أيضا.
تأسيسا على أن «الخلاف» بين «السنة» و«الشيعة» مستعصي، وعلى أن هذا «الخلاف»، كما يزعم الذين يوقدون ناره، هو في جوهره ديني، نجم عنه مفاهيم جديدة، كمثل تكفير الخصم، ووجوب التطهير المذهبي. أما على الصعيد الفردي فإن هذه المفاهيم تحرم من ليس مؤمنا ومن لا يتحزب للمذهب الذي يدعي أنه من أتباعه، من الوجود والبقاء وليس فقط من حق العمل والتعبير. بمعنى آخر، لا مكان في هذه المعمعة الجاهلية للمواطن، أي للعلماني. على قاعدة أنه لا يمكن الجمع بين المواطن من جهة والتحزب المذهبي من جهة ثانية.
لأعد إلى مسألة عرسال. إستنادا إلى ما تناهى إلى العلم، ردّ الجيش اللبناني على إعتداء الجماعات المسلحة على مواقعه في عرسال، فقلب ميزان القوى لصالحه. هنا إنطلقت المظاهرات في بعض المناطق اللبنانية، بحجة ضرورة وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات التموينية إلى سكان عرسال. بالتلازم مع ذلك تولت جماعة من رجال الدين (هيئة العلماء)، بموافقة الحكومة اللبنانية، مهمة التوسط بين الجيش اللبناني من جهة وبين الإسلاميين من جهة ثانية. نتج عنه، أن المسلحين استطاعوا إعادة انتشارهم في عرسال ومحيطها واحتفظوا بالجنود المختطفين، تارة يقولون أنهم ذبحوا أحدهم وتارة أخرى يهددون بذبحه. كأن رجال الدين الذين توسطوا والحكومة التي أوكلت إليهم أمر الوساطة ومنعت الجيش من معاقبة الذين قتلوا عددا من جنوده واختطفوا عددا آخر، كأن هؤلاء جميعا، إنحازوا إلى جانب الإسلاميين الإرهابيين، ورفضوا السماح بمقاومتهم!
ماذا سيكون الموقف إذا عاود الإسلاميون هجومهم، أو حاولوا التمدد إنطلاقا من عرسال؟ أنا لا املك الإجابة. ما أود قوله هنا، أن بعض المصادر وضعت تقارير عن الدولة الإسلامية، وعن ظاهرة داعش تحديدا، تضمن بعضها إيحاءات واضحة بأنه لا يعود الفضل إلى «داعش» وجندها ومرتزقتها في تحقيق الإنجازات التي نسمع عنها على الأرض، بل إلى خصومها المفترضين. فلقد كان في أعلى سلم أولويات داعش قتال، وإقصاء أعدائها من «السنّة». أما المناطق التي تبسط «داعش» سيطرتها عليها، في سوريا وفي العراق، فلم تكن محمية كما يجب لا في سوريا ولا في العراق. بمعنى آخر لم تواجه «داعش» مقاومة قوية أثناء تمددها. فبحسب المصادر المشار إليها، إستفادت «داعش» من تراجع الدولة نسبيا، فملأت الفراغ.
في السياق نفسه، لا جدال في أن نفوذ الدولة في لبنان منحسرٌ، ليس فقط عن عرسال وجرودها، وليس فقط في مجال الأمن وتطبيق القانون، بل عن مناطق أخرى وأكاد أن أقول في كافة مجالات الشأن العام. ينبني عليه، أن «داعش» حقيقة في لبنان. ما يحول دون الكشف عن وجودها حتى الآن، هو أن ذلك سيكون مغامرة كبيرة «غير محسوبة» العواقب. لم يكن السياسيون التقليديون في لبنان ذوي مزايا حميدة، ولكنهم كانوا متعقلين في موضوع العلاقة مع سوريا، بعكس حكام هذا الزمان. كانوا يعرفون أن الحكم في لبنان لا يستطيع أن يناصب سوريا العداوة. يجدر التذكير بأن الأميركيين صنعوا طالبان في إفغانستان لأن طالبان لا تملك مشروع دولة. فسمحت لهم سياسة طالبان بغزو أفغانستان!
ثريا عاصي