لم يكن ما صدر عن الرئيس سعد الحريري قبل أيام مجرد بيان سياسي وإنما حمل في مضمونه مشروع مبادرة سياسية للخروج من الأزمة المتفاقمة، وبدءا من انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وهذه المبادرة لاقت الارتياح والترحيب من جانب الرئيس نبيه بري الذي رأى فيها حسنات وإيجابيات كثيرة وسيئات وسلبيات قليلة، ومن جانب النائب وليد جنبلاط الذي، وبعدما أيقن أن حركته السياسية الأخيرة التي شملت الساحة المسيحية لم تصل الى نتيجة، كان السبّاق الى تلقف المبادرة وملاقاتها والتعويل عليها لإحداث اختراق سياسي في جدار الأزمة التي بدأت أزمة فراغ رئاسي وتدحرجت الى مشروع أزمة شاملة مع نسبة عالية من المخاطر الأمنية.
ويعتبر جنبلاط أن مبادرة الحريري جدية ومهمة ويمكن البناء عليها، وأنها أطلقت الموقف الأهم للحريري في سنة الاستحقاقات وقدمت طرحا متقدما يلاقي ما كان هو (أي جنبلاط) اقترحه ونصح به تكرارا وتحديدا لجهة:
– الخروج من السجال العقيم حول مسألة التورط والتدخل في الحدث السوري والأسباب والتداعيات والانتقال الى التعاطي مع الواقع الجديد ونتائجه.
– الفصل بين الأزمة السورية والوضع اللبناني سياسيا وعسكريا (مع إعلان الحريري رفضه تحويل المعارضة السورية لبنان ساحة تتساوى في الخراب مع الساحة السورية، ورفضه الانتقام من حزب الله على الأرض اللبنانية).
– عدم حصر الموقف الانتقادي والاعتراضي في حزب الله ووجوب انسحابه من سورية. (الحريري انتقد المعارضة السورية ودعا الى وجوب مراعاتها لواقع لبنان وتركيبته وأوضاعه ومصالحه).
– سياسة مد اليد والدعوة الى الحوار الذي يبدأ من نقطة الاتفاق على رئيس جديد للجمهورية.
إذا كان الحريري فعل ما عليه ورمى حجره السياسي في المياه اللبنانية الراكدة محدثا “دوائر واهتزازات”، فإن هذه الدوائر تتلاشى وقوة الدفع للمبادرة تستنفد وتستهلك سريعا في ظل الأوضاع الضاغطة، إذا لم تجد “مبادرة الحريري” من يسوقها ويفعلها ويستثمرها.
وهذا ما بدأ به جنبلاط الذي “تجند” لهذه المهمة بتشجيع ضمني من الرئيس بري الذي يكتفي بتحريك اللعبة من وراء الستارة مقيدا باعتبارات العلاقة مع حزب الله وموقفه. ومن الواضح أن التحدي الأكبر أمام جنبلاط هو في إقناع حزب الله بالتفاعل إيجابا مع مبادرة الحريري وملاقاتها.
ومن الواضح أيضا أن حزب الله هو المعني الأول بهذه المبادرة وهذه الدعوة الى الحوار من جانب المستقبل الذي يرى أن الوقت مناسب والمجال متاح للبدء في حوار موضعي (محدد في موضوعه) ومحلي (بمعزل عن الوضع الإقليمي) ولتحقيق “التقاطع التفاهم” الثالث هذا العام بين المستقبل وحزب الله الذي كان تحقق حول الحكومة أولا والآن حول التمديد لمجلس النواب، ولاحقا حول رئاسة الجمهورية.
حتى الآن حزب الله لم يظهر اكتراثا بمبادرة الحريري ولم يثمنها ولم يفعل شيئا لملاقاتها، ويتجاهلها كما تجاهل عودة الحريري الى بيروت، إذ لم يلاقه حزب الله بترحيب أو بلقاء.
ومن المرجح أن يكون موقف حزب الله ازاء هذه المبادرة، وجوهرها الفعلي هو التفاهم على “رئيس توافقي”، حذرا ومتريثا للأسباب التالية:
-مراعاة موجبات التحالف مع العماد ميشال عون وأخذ مصالحه السياسية في الاعتبار، وخصوصا في الاستحقاق الرئاسي الذي يضعه الحزب عند عون ويحيل إليه كل المتصلين والمراجعين في هذا الخصوص…
وبالتالي لا انتقال الى مرحلة “الرئيس التوافقي” من دون موافقة عون ومن دون إرضائه…
– عدم رغبة حزب الله في تكرار سيناريو العام 2008 إذا كان الحريري راغبا في ذلك. حزب الله ليس متحمسا لـ “الرئيس التوافقي” ولا يريد تكرار تجربة ميشال سليمان.
– وجود فجوة في العلاقة مع تيار المستقبل وشيء من أزمة ثقة متجددة. حزب الله يعتبر مواقف المستقبل غير كافية وتعكس ارتجاجا وازدواجية.
– المعطى الإقليمي الذي يجعل أن هناك ترابطا بين الوضع في لبنان والوضع في المنطقة، لاسيما الملف السوري. فأقصى ما يمكن تحقيقه هو إبقاء الستاتيكو القائم، وأما الحلول والتسويات بما في ذلك رئاسة الجمهورية فإنها تنتظر جلاء الوضع في سورية في ضوء ما ستؤول إليه حرب التحالف الدولي ضد الإرهاب، وقبل ذلك ما ستؤول إليه المفاوضات النووية في مرحلتها النهائية.