الوعد
(مسرحيّة)
تأليف:
باسل
بديع الزين
“كلّ
مجدي أنني حاولت
لكنّي
لم أجد في هذه الصحراء من يتبعني”
شوقي
بزيع
الفصل الأوّل
المشهد الأوّل
المكان: منزل متواضع في وسط المدينة بيروت
الزّمان: أيّامنا الحاضرة.
(منزل الشّهيد ناجي الكركي، عقيد في الجيش اللبناني،
استشهد في الدّفاع عن أرضه ووطنه).
(مجد ابن الشّهيد ناجي، عالم في الفيزياء النّوويّة طارت
شهرته وذاع صيته في الأوساط العلميّة).
(أندريا شقيقة مجد، وهي بمثابة والدته، اعتنت به عناية
خاصّة منذ رحيل والدته عن هذه المسكونة).
(يبدو مجد غارقًا في أبحاثه، في حين تبدو أندريا شبه
متأفّفة وهي تلملم الأوراق المتناثرة يمينًا وشمالاً).
أندريا: أينما تلّفتي أبصر كتبًا. أخشى ما أخشاه أنّك لا
تستطيع شيئًا خارج إطار العلم والبحث.
أخي مجد، لا أخفيك ظنًّا أنّني أنتظر هذا اليوم منذ سنين
خلت، لا ينبغي أن ينقطع نسل الشّهيد ناجي الكركي على الإطلاق.
مجد: الأمانة الّتي وضعها أبي الشهيد بين يديّ أمانة
كبيرة يا أندريا.
أندريا: وأنت
أهل لها.
مذ بلغت سنّ السّادسة وأنت تبدي جديّة قلّ نظيرها كيما
تكمل المسيرة التي بدأها والدك. لقد نذرت حياتك للعلم والبحث، وحملت الأمانة بصدق.
لا أخفيك ظنًّا أن تكون عالمًا في الفيزياء النّوويّة وأنت لم تبلغ عتبة الثّلاثين
بقدر ما تمنحني شعورًا بالفخر بقدر ما تعزّز في داخلي شعور الخوف والقلق عليك.
مجد: حينما استشهد والدي وهو يدافع عن أرضنا المحتلّة،
لم يخف من الموت قدر خوفه على الوطن.
أندريا: نعم، وكما في كلّ عامّ، أرسل لنا قائد الجيش
دعوة لحضور الحفل التّكريم السّنويّ الّذي يقام سنويًّا تخليدًا لعطاءاته. لقد
تعلّمت من هذا الجيش كيف يقاتل المرء بقلبه وكيف يمكن للدم أن يغدو سلاحًا وللأرض
أن تصير أمًّا تحرسنا بأشفار العيون.
مجد: كل من لم يذد عن حوضه بسلاحه ليحمي أرضه ويحفظ
اسمًا كبيرًا ومباركًا كاسم والدي فهو صدقًا لا يستحقّ الحياة.
أندريا: وأنت حملت الأمانة بصدق.
حينما غيّب الموت والدك كنت لا تزال صغيرًا، لقد حار
الجميع كيف ينقلون خبر استشهاده إلى والدتك – أسكنها الله فسيح جناته – لكنّ أحدًا
لم يتوقّع ردّة فعلها، لقد تمالكت نفسها إلى أقصى حدٍّ ممكن، ولم تذرف دمعة واحدة،
واكتفت بالقول أنّ حياة الشّهيد تبدأ يوم مماته. مسكينة والدتك، لم تطق فراق أبيك
أكثر من أربع وعشرين ساعة، كانت خلالها تنسج كفنها لترتّب مكانًا لها إلى جواره،
عساها ترافقه في مماته كما رافقته في حياته.
(دخول سيرينا، خطيبة مجد، وبرفقتها سعيد صديق مجد
الوحيد)
سيرينا: عمتما صباحًا…
لقد وضعت اللّمسات الأخيرة على جميع التّجهيزات، واستلمت
دعوات العرس من المطبعة، كم انّي متشوّقة إلى ذاك المساء، أراه بعيدًا جدًّا،
سيرينا كركي حرم العالم مجد الكركي.
سعيد: أراك قلقًا بعض الشيء، لا تبالغ في خوفك كثيرًا.
مجد: لا أغالي إذا قلت بأنّ فكرة الزّواج لا تقلّ مشقة
وخطورة عن الأبحاث النّوويّة.
(ينظر إلى سيرينا مستدركًا…)
سيرينا: تابع، تابع، ما زالت الفرصة متاحة أمامك لتعدل
عن فكرة الزّواج.
مجد: وهل لي أن أردّ قدري، أنت قدري يا سيرينا.
سعد: لكنّه قدر رائع، سيرينا كنز يبحث عن أيادٍ أمينة
لتحفظه.
مجد: (مازحًا) لا تستغربنّ إذا أخذت الغيرة منّي مأخذها.
سيرينا: لتغر، لتسعرني لو لمرّة أنّك تحبّني بمقدار ما
أحبّك.
مجد: لتعلمي يا سيرينا أنّني أغار عليك من الدنيا
بأسرها، من النسمة العابرة إذا لامست شعرك، لكن لا أغار عليك من سعيد. سعيد ليس
صديقي وحسب، سعيد أخي الّذي لم يمنحني إياه الله ومنحتني إياه الحياة.
سعيد: حفظك الله أيها الخلّ الوفيّ.
سيرينا: أندريا، هل لي أن أحدثك على انفراد، يبدو أننا
متطفلتان على حديثهما.
مجد: تعجبني قدرتك على تلقف الرموز.
(تخرجان)
(فترة صمت قصيرة تمر كأنها الدهر)
مجد: ماذا تريد أن تقول يا صديقي؟
سعيد: تبدو لهجتك غريبة بعض الشيء.
مجد: أقرأ في عينيك كلامًا كثيرًا، إنها المرة الأولى
التي لا تسر إلي فيها بما يعتلج في داخلك.
سعيد: إنها مشاكل الحياة اليومية، لا تشغل نفسك.
مجد: حدسي ينبئني بخلاف ما تقول.
سعيد: لقد خذلك حدسك هذه المرة.
مجد: لكنني أعلم ما يشغل بالك حقًا.
سعيد: إذن أنبئني بما لست أدركه.
مجد: لتغفر لي هذه المرة أيضًا.
سعيد: هذه المرة أيضًا، أي غفران تتحدث عنه، حقًا إني لا
أفهمك.
مجد: أعرف مقدار حبك لسيرينا، وأنك غير قادر على
نسيانها، وذلكم ما يؤرقني ويجعل ليلي نهارًا.
سعيد: أرجوك دعك من هذا المزاح غير المستحب، لكي لا أقول
أكثر من ذلك.
مجد: سعيد أنت أخي والمشاعر ليست بأيدينا.
سعيد: يجب أن تعلم أنّ الفتاة التي يقترن بها أخي تصبح
بدورها شقيقة لي فلا تدع خيالك يصور لك أمورًا قد تندم عليها يومًا.
مجد: أنا على ثقة تمامًا مما تقول. لطالما تعاطيت معها
على أنها شقيقة لك، وأنا أقدر لك ذلك كثيرًا. سعيد نستطيع أن نصادف في كل يوم
امرأة نعشقها، لكننا لا نستطيع أن نخرج من هذه الحياة بأكثر من صديق. الصديق عملة
نادرة، قدر جميل لا نستطيع العيش من دونه.
سعيد: إذا كانت صداقتي تعني لك حقًا فلتلق بأفكارك هذه
جانبًا.
مجد: يجب أن تعلم أنني لم أحكم يومًا على مشاعرك بسوء
نيّة.
صديقي، الحب بريء أتدري لماذا؟ لأن الحب تضحية، وأنا لا
أستطيع أن أنسى أنك ذبحت حبك قربانًا لصداقتنا.
سعيد: وأنت بدورك يجب أن تعلم أن سيرينا تجمعنا ولا
تفرقنا.
مجد: كيف أنسى أنك كنت الشخص الوحيد الذي لملم جروحي من
على قارعة اليأس يوم كسرتني لين وغادرتني دون أن تبوح بكلمة وداع.
سعيد: لين، بمقدار ما عظمتها بمقدار ما صغرتك.
مجد: رجاء لا تتحدث عنها على هذا النحو، قلت لك ألف مرة
ثمة ظروف قسرية دفعتها إلى القيام بما قامت به.
سعيد: أرى أنك لا تزال تكن لها الكثير.
مجد: ما من أحد يتنكر لنفسه.
سعيد: وأين سيرينا من عواطفك هذه؟
مجد: لا تخف، لين مفردة طلقة في قاموس الذكريات القديم،
لكنها ذكرى لا تمحّي.
سعيد: عدني ألا تظلم سيرينا مهما كلفك الأمر.
مجد: (ضاحكًا) أعدك، لست أحرص على شعور سيرينا مني.
المشهد الثاني
(مقهى الأصدقاء)
(يبدو كل من سعيد ومجد مسترسلين في حديث عميق)
سعيد: ثمة ما يقلقك، ألن تسر إلي بما يعتلج في داخلك؟
مجد: حدسي يقول لي بأن ثمة شيئًا كبيرًا ينتظرني.
سعيد: يجب أن تضع حدًا لحدوسك المتداعية هذه، الأمر لا
يعدو كونه ترويضًا للذات لتقبل فكرة الحياة الجديدة، حياة تفرض عليك التزامات قد
لا تبدو مستعدًا لتقبلها بعد.
مجد: صحيح، صحيح، إنها النقلة من الحرية إلى القفص
الذهبي، بيد أن القفص يبقى قفصًا ذهبًا كان أو ماسًا.
سعيد: سيرينا ليست قفصًا سيرينا حرية.
مجد (يرمقه بنظره حادة): أراك تبالغ كثيرًا…
سعيد: أعتذر.
(يرن الهاتف الجوال في يد مجد)
مجد: رقم غريب، أراه للمرة الأولى.
سعيد: لتجب، لمَ أنت متوتر إلى هذا الحد؟
مجد: حقًا ليس هناك ما يدعو للتوتر.
مجد الكركي يتكلم
صوت مجهول: تراك ما زلت تجلس في مقهى الأصدقاء
مجد: من المتكلم؟
صوت مجهول: يبدو أن لذاكرتك قدرة كبيرة على النسيان.
مجد: لين ن ن ن ن ن.
سعيد: لين.
مجد: (يضع يده على فم سعيد في حركة تلقائية): لين ننن
لين: نعم لين، أم أن تغيرات الزمن امتدت لتطولك.
مجد: أينك؟
لين: قلت لك تراك ما زلت تجلس في مقهى الأصدقاء. إني أقف
بباب المقهى، أتستقبلني.
مجد: بالطبع، بالطبع، لحظات وأكون معك.
سعيد: ماذا هناك؟
مجد: لين تقف بباب المقهى، لتمض، بل لتبق، سيان أنت
اختر…
سعيد: لتهدئ من روعك لا داع لكل هذا الانفعال، لتبق
طبيعيًا سألقي عليها السلام وأمضي من فوري.
(يخرج مجد ويعود بصحبة لين)
سعيد: أشرقت الأنوار.
لين: مشرقة بوجود.
سعيد: أستأذنكما.
لين: أعتذر، كعادتي أعتذر عن مقاطعتكما، أم تراكما قد
نسيتما؟
سعيد: هناك أمور لا يمكن أن تنسى.
(يخرج)
لين: ألن تدعوني إلى الجلوس؟
مجد: رجاء تفضلي… أي نوع من الشراب تفضلين؟
لين: لم تكن لتسألني يومًا أي نوع من الشراب أفضل
مجد: عذرًا أيها النادل هل لي أن أطلب إليك ركوةً من
القهوة؟
لين: أينك يا لين، لماذا هجرتني؟ أي غاية ترمين إليها من
عودتك ؟ أسئلة أقرأها في عينيك، ألا تريد أن تطرحها علي؟
مجد: دومًا كنت أمنحك الأعذار، لذا لم يكن لدي شك بأنك
ستعودين.
لين: والدليل أن عرسك سيقام الأسبوع المقبل.
مجد: يبدو أنّك متابعة لأهم المستجدات التي تطرأ على
حياتي العاطفية.
لين: أنا لم أنسك يومًا لأتابعك.
مجد: سنتان من الغياب ولم تنسني، وجهة نظر.
لين: لا ألومك، أنت محق في كل ما تقوله، لكن الظروف…
مجد: (مقاطعًا) لا تكملي رجاءً، قلت لك ألف مرة لا شيء
هناك يدعى ظروف، وحدنا من نصنع الظروف بأيدينا.
لين (ضاحكة): لا عجب، فأنت هو أنت
مجد: ولن أتغير يومًا.
لين: وهذا ما دفعني للعودة.
مجد: لماذا قفلت ما دمت ستعودين؟
لين: لم يكن بإمكاني أن أرفض منحة لاستكمال دراستي في
فرنسا.
مجد: عذر أقبح من ذنب.
لين: لا تكن سليط اللسان.
مجد: أعطني سببًا مقنعًا لرحيلك وسأكون لك من الشّاكرين.
لين: (صمت)
مجد: لقد قفلت، ولم تتركي خلفك سوى قصاصة ورق، أتذكرين
ما جاء فيها؟ “إبحث عن حياتك الخاصّة، ودعني أخوض غمار دربي وحيدة”، وفي
ليلة ظلماء، غادرت منزلك وتنازلت عن هاتفك الجوال، ولم تتركي لي سبيلا لأعدو من
خلاله منك إليك.
لين: لقد تزوجت.
مجد: أنعِم وأكرِم.
لين: قلت لك ألف مرة سخريتك هذه تقتلني.
ماذا كنت لأفعل، وأبي قسمت ظهره الديون، وغدا مهددًا
بالسجن، ماذا كنت لأفعل وأنا أقرأ في عينيه تزوجي “زكي عيد”، مهرك
ديوني، وعرسك سندات دين لا أملك لسداها قرشًا واحدًا، بين سجن أبي وحبي لك اخترت
سجني الخاص، وكفى.
مجد: لماذا لم تطلبي إلي سداد المبلغ، على الأقل…
لين: (مقاطعة) على الأقل ماذا؟ هل كنت لتسدد ديونًا
بملايين الدولارات، العالِم في بلادنا إذا استطاع أن يؤمّن كفاف شهره دون أن
يستدين، يكون قد حقق إنجازًا يضاف إلى رصيده العلميّ.
مجد: آثرت موتكِ على سجن أبيك.
لين: لكني لم أنسك يومًا، وهأنذا أؤوب إليك من حقول
ضياعي، ولا غاية عندي إلا أن تغفر لي.
مجد: أغفر لك؟ أنا لم ألمك يومًا كي أسامحك. الخطأ ليس
خطأك، الخطأ خطأ هذا الزمان الذي غدا فيه المال ربًا معبودًا، والإنسان رقمًا
صعبًا بحسابٍ جار بمصرف الأيام.
لين: ما أقسى الزمان وما أنصفك، يوم أصبحت حرة غادرتني،
يا لمعادلة المعكوس كيف تفعل فعلها في النفوس.
مجد: غدوت حرة كيف؟
لين: لقد خسر زوجي كل أمواله في الأزمة الاقتصادية
الأخيرة، لم يستطع أن يفي بديونه فحكم عليه بالسجن عشر سنوات، الأمر الذي مكنني من
طلب الطلاق والحصول عليه.
مجد: حقًا، رب ضارة نافعة، وها هي الأمور تعود إلى
نصابها، وعلاقتنا تتجه إلى خواتيمها السعيدة.
لين: أظنك غافلاً أن عرسك مطلع الأسبوع القادم.
مجد: لم أنس، لكني لا أريد أن أتذكر، دعيني أستمتع بأجمل
لحظات العمر.
لين: لحظات، أنت قلت، لحظات.
مجد: برأيك هل يمكن لزواجي من سيرينا أن يستمر؟
لين: على الأقل لا تتسبب في جرحها.
مجد: ليكن جرحًا لمرة واحدة، عوضًا عن جرح يتكرر في
اليوم ألف مرة.
لين: لا وألف لا، ضميري لا يطاوعني، أنا لا أستطيع أن
أدمر حياة أي إنسان على الإطلاق.
مجد: وحده زواجي منها قادر على تدميرها.
كيف تريدين لي أن أكون معها وقلبي ينبض بحب امرأة ثانية.
لين: ستعتاد.
مجد: وأنا لم أتعود غيابك يومًا.
لين: وأنا لا أريد أن أقلب حياتك رأسًا على عقب، جئت
لأبرأ نفسي وأمضي.
مجد: لن أدعك تمضين، لست على استعداد لأخسرك مرة ثانية.
لين: أنا محكومة بالعيش في فرنسا، ظروف عملي ودراستي
تحتم علي البقاء هناك على الأقل لمدة خمس سنوات.
مجد: نسافر سويًا.
لين: وحديثك عن لبنان وأن الوطن أكبر من عواطف عابرة وحب
مستحيل؟
مجد: يومًا ما سنعود، أضيفي إلى ذلك أنه من شأن المسافة
أن تضع حدًا للعواطف الملتهبة والجروح النابضة بالألم.
لكنها تضحية كبيرة وأنا لا أستحقها.
مجد: أنت تستحقين أكثر من ذلك بكثير، أعطني أسبوعًا
واحدًا، أسبوعًا واحدًا فقط، لأرتب جميع أموري، وأعد العدة للحلم المرتقب.
لين: دعك من الاستعجال، وفكر مليًا في الأمر.
مجد: لقد فكرت مليًا، واتخذت قراري النهائي.
لين: عين العقل، وهي فرصة تاريخية لم لتتابع أبحاثك
بأرقى مركز بحث علمي في العالم.
مجد: آن الأوان أخيرًا لتغدو كل أحلامي حقيقة.
المشهد الثالث
(يبدو سعيد في حالة ذهول ومجد يقص عليه أحداث ما جرى)
سعيد: إنّه كلام أقرب إلى الجنون منه إلى العقل.
مجد: ثمة أمور لا تقاس بمقاييس العقل.
سعيد: على فرض أنك محق، فإني أناشدك باسم العاطفة ألا
تجرح سيرينا، أنت لست متخيلاً مقدار الأذى الذي ستلحقه بها.
مجد: لا تحاول أن تقنعني أنك لا تنتظر هذه اللحظة، لقد
تعبدت الطريق أمامك من أجل الوصول إلى سيرينا.
سعيد: إياك والإسفاف في كلامك، إني متمسك بصداقتنا حتى
آخر لحظة، فاحرص على ردود أفعالك، وكن عالمًا في تصرفاتك كما في عملك.
مجد: تكن حبًا لخطيبتي وتود لو انشقت الأرض وابتلعتني
لتفوز بها، وتحدثني عن الصداقة.
سعيد: لتلزم حدك، دعني أغادرك الآن، يبدو أن الوقت ليس
وقت نقاش هادئ معك.
مجد: (وقد أنب نفسه) هل لي أن أحمّلك أمانة.
سعيد: إن وجدتني أهلاً لها.
مجد: (يخلع محبسه ويضعه في يد سعيد) لتكن سيرينا أمانة
في رقبتك.
سعيد: الأمانة أن أحفظ سيرينا سرًا في صدري لا أبوح به
عساك تعود إلى رشدك وتمتنع عمّا أنت عازم عليه.
للمرة الأولى سأخاطبك بهذه اللهجة، سأتلكم وستسمع شئت أم
أبيت…
بلى لقد صار بوسعي أن أرسم طريقًا مستقبليًا مع سيرينا
بيد أنني لا أساوم على صداقتي بك من أجل أحد ولو مثل هذا
الأحد حلمًا طالما انتظرته وعشت من أجله.
أعترف لك أنني أحب سيرينا
وبصراحة أكبر لن أكف عن حبها يومًا
لكنني أحبك أكثر، ولذلك لا بد لي أن أصارحك بأن لين لم
تعد إلا لتدمر حياتك، لتمسح عن جبينك أنقى ما في داخلك من إنسانية، حدق جيدًا ورِ
لين على حقيقتها، إنها أكثر سوءًا مما تصور، فحاذر…
مجد: (يلطمه) إنها المرة الأخيرة التي أسمح لك بها بأن
تتكلم عن لين على هذا النحو.
سعيد: إنها النهاية يا صديقي، إنها النهاية. نحن لم
يفرقنا الزمن لكن يبدو أن لين ستفرقنا
في مطلق الأحوال، آن للرقص أن ينتهي وقد أسررت لك بحقيقة
ما يعتلج في داخلي إزاء تصرفاتها وأهدافها، وأنا مطمئن إلى أنني لم أخالف ضميري.
مجد: سعيد
سعيد: اللهم إشهد أني قد بلغت…
المشهد الرابع
(تبدو سيرينا في وضعية حزينة جدًا لكنها تحاول أن تتصنع
الهدوء)
سيرينا: الظلم ألا تغادرني، الأنثى لا احتمل أن يحمل
زوجها في قلبه امرأة سواها.
مجد: كلامك يجرحني في الصميم أرجوك كفى…
سيرينا: لن أقول لك أني لست حزينو ومحبطة، لكن صدقًا لم
أشعر يومًا أنك لي…
أن تمضي الآن خير من أن تمضي غدًا…
اذهب حرستك الأيام من كل سوء…
مجد: سيرينا…
سيرينا: لا تخف، لقد أمضيت بقربك عامًا يعادل الأبدية
اذهب حرستك الأيام من كل سوء
(يقترب مجد منها ويغمرها فتغمره بشدّة، يخرج وتبقى
وحيدة)
سيرينا: لا تلتفت إلى الوراء لتودّع من خلّفك وحيدًا في
صحراء الحياة المقفرة، كان يجب أن تدركي منذ اليوم الأول أنه ليس لك، وأنه لم يعد
كونه حلمًا قصيرًا وانتهى، حلمًا قصيرًا وانتهى.
(تنفجر بالبكاء)
الفصل الثّاني
المشهد الأول
(معتقل في مدينة فرنسية، ويظهر على المسرح سجان فرنسي
برتبة كولونيل يزرع الطريق ذهابًا وإيابًا)
السجّان: مجد ناجي الكركري، ابن الشهيد ناجي الكركي.
المهنة عالم في مجال الفيزياء النووية، وهنا يكمن مربط الفرس.
مجد: لهجتك توحي بأنك عربي.
السجان: أنا فرنسي الجنسية، لكن جذوري، وأضع كلمة جذوري
كما تقولون بين هلالين، عربية، أي أنني ولدت لأب عربي وأم عربية.
مجد: ما أعرفه أن العربي لا يتآمر على أخيه العربي
ويسجنه.
السجان: من شبه والده فما ظلم.
أنا لم أغد سجانك إلا لأنني تخليت عن هويتي وقدمت فروض
الولاء والطاعة، لا شيء في هذه البلاد يعود بالنفع على الإنسان أكثر من أن يتنكر
لأصله بل ويحاربه.
مجد: لا بد وأن تختبر يومًا صحة ما تقول، حينما تنتهي
فترة صلاحيتك، الهوية الغريبة هوية قاتلة، والويل ثم الويل لمن يرضى بها بديلا عن
هويته الأصلية، إذ أنه بانتهاء صلاحيته لن يجد غربة لتضمه ولا وطنًا ليسترده.
السجان: المبادئ المبادئ المبادئ
ليتكم تعملون بقدر ما تتكلمون.
مجد: أجدت، صدقًا أجدت والدليل أنني موجود ها هنا.
سجان: أوتدرك سبب وجودك ها هنا؟
مجد: ألم تقل منذ قليل أن عملي هو مربط الفرس؟
السجان: أن يبتكر عالم عربي أبحاثًا نووية أمر غير مقبول
على الإطلاق.
مجد: إذن نحن نفعل أكثر مما نتكلم، كفانا فخرًا أننا لا
نزال نخيفكم.
السجان: لم ولن تخيفونا يومًا، وإن كنا قد وقفنا إلى
جانبكم فهذا لا يعني أن تخرجوا عن طوعنا.
مجد: يبدو أنك نسيت كيف خرجت جيوشكم من لبنان؟
السجان: لأننا لم ننس أنت هنا.
مجد: والمطلوب؟
السجان: أن تسلمنا نتائج أبحاثك، بعدها بوسعك أن تكون
حرًّا.
مجد: أنا حر طالما أنني لم أتنازل، صدقًا لا يجتمع
التنازل والحرية في قلب العربي.
السجان: لا شك أن أساليب الترهيب والتعذيب ستجعلك تتنازل
بمنتهى اليسر.
مجد: شعبنا يعاني منذ ستين عامًا كل صنوف التعذيب ولم
تهتز قناعاته بل على العكس كل عام يمر يزيده قناعة وتشبثًا بمبادئه.
لتبحث عن وسيلة أخرى إن كان في جبتك وسائل أخرى.
مجد: بالطبع هناك وسائل أخرى، أظن أن لين التي هجرت
خطيبتك وأهلك وأصدقاءك من أجلها كفيلة بأن تجعلك تسلمنا نتائج أبحاثك ومنذ النظرة
الأولى.
مجد: لين؟ (مستدركًا)
مهما غاليتم في تعذيبها واعتقالها لن تتطلب إلي أن
أتنازل، في بلادنا زوج الشهيد والأسير لا تعرف إلا أن تحفظ وصية الشهيد والأسير.
السجان: لتكن مؤمنة بك بداية، إذاك لكل حادث حديث.
مجد: لا أفهمك؟
السجان: عما قليل ستتضح لك الصورة على نحو جلي.
(تدخل لين وهي ترتدي زيًا فرنسيًا)
مجد: لين ماذا حل بك، وأي صنوف تعذيب تعرضت لها أرجوك
أنبئيني؟
لين: لتكن هادئًا ولتنصت جيدًا لما سأقوله لك.
إنه أناس تحجرت قلوبهم، فمن الأفضل لك ولي أن تسلمهم
نتائج أبحاثك وتفوز بحريتك وتفوز بي.
مجد: لين، هل تدركين حقيقة ما تتفوهين به؟ أرجوك، بوسعي
أن أحتمل عذاب الدنيا بأسرها على ألا تنكسر صورتك التي رسمتها لك في مخيلتي.
لين: أنت قلت: صورة، سنوات وأنت تنظر إلي بعين مقدسة
وتنسج حكايات وتلوكها عن امرأة لا وجود لها إلا في خيالك. هل صدقت حقًا قصة زواجي
وانهيار مركزه المالي؟ حقًا كم أنت بسيط وساذج…
مجد: لين، لست أصدق، هل انضممت إلى صفوفهم حقًا؟
لين: لم لا تقول أنني أحاول أن أضمك إلى صفوفنا.
مجد: أنت من استدرجني إلى هنا؟ أواه كم كنت مغفلاً…
لين: بالضبط، وستكون مغفلاً إن لم تستفد من الفرصة
التاريخية التي أنت بصددها.
مجد: لست نادمًا إلا على المشاعر النبيلة التي حملتها في
قلبي تجاهك.
لين: لا تجتمع الرومنسية والعلم في شخص واحد، فحاذر.
السجان: أمامك أسبوع كامل لتنقذ نفسك وتربح مستقبلك،
وإلى ذلك الحين حاول أن تهدئ من روعك، وأن تستوعب الصدمة، ثمة ظروف استثنائية يجب
أن تتعاطى معها بطريقة استثنائية.
(تخرج لين ويتبعها السجان، ويبقى مجد وحيدًا)
مجد: صديقي إني أناديك من أقاصي ظلمة ليس بعدها ظلمة.
وأنا على ثقة بأنك ستسمعني، قل لسيرينا أنني نادم على كل
دمعة بكتها من أجلي، ولو أن الزمان يعود أدراجه إلى الوراء ما كنت لأختار سواها…
وأنت يا صديقي، الآن عرفت قيمتك حق المعرفة، حقًا لا
ندرك حقيقة من نحب إلا حينما نودعهم…
الآن تنزل كلماتك في أذني منزلة المقدس
لتغفر لي أيها الخل الوفي
لتغفر لي ولتطمئن أندريا
ابن الشهيد كركي لا يعرف التنازل
والأمانة التي وضعتها في رقبتي ستبقى أمانة إلى حين
يستودعني الله سره
لقد انتصرنا على الغزاة ورفعنا دمنا قربانًا لأرضنا
المقدسة
واليوم يحاربنا الغزاة أنفسهم بسيف الفكر والعلم ولا يريدون
لنا أن نتقدم
لكن محاولتهم ستبوء بالفشل هذه المرة أيضًا
هذا وعد قطعته على نفسي
نحن أمة لا تعرف أن تهزم
نحن أمة لا تجيد إلا لغة الانتصارات
عذرًا شاعرنا الكبير لسنا جيل الموت بالمجان
لسنا جيل الموت بالمجان.
المشهد الثاني
(زنزانة ضيقة يقاد إليها مجد قسرًا، وفي إحدى زواياها
جلس سجين يقلب صفحات دفتر عتيق يبدو أن صفحاته قد حاربت الصفرة زمنًا طويلاً)
السجين: الشرق شرق والغرب غرب، ولن يجتمعا …
مجد: عجبًا ألم تعد تتسع سجونهم إلا لأسرى عرب؟
السجين: ليت شعري متى لم يكن العربي أسيرًا؟
مجد: لم انت هنا؟
السجين: للسبب نفسه الذي توجد أنت من أجله ها هنا.
مجد: أو تدرك سبب وجودي معك في زنزانة واحدة؟
السجين: كل من رفض تقديم فروض الولاء والطاعة لا بد وأن
ينساق إلى المصير نفسه الذي ينتظرنا.
مجد: وما هو المصير الذي ينتظرنا؟
السجين: أن يتآكل عقلنا رويدًا رويدًا وينهشه الصدأ
مجد: المهم ألا نتنازل مهما كلف الأمر.
السجين: ستمر عليك أيام تعيش فيها على هامش الحياة،
وستخرج يومًا لتجد أن عقلك قد امتلأ بعفونة لا سبيل إلى دفعها، حينها لن يكون
بوسعك أن تغير شيئًا.
مجد: مهما حاولوا أن يتلاعبوا بمصير أمتنا، إلا أننا أمة
محكومة بالنصر وكفى.
السجين: كيف سننتصر إذا امتلأت سجونهم بمبدعينا
وعلمائنا؟
مجد: نحن أمة تنجب في كل يوم ألف شهيد وألف عالم وألف
مبدع.
السجين: لا فض فوك، إذ لن يكتب لمحاولاتهم النجاح إلا في
اليوم الذي يتوصلون فيه إلى استئصال الأمل من أفئدتنا وعقولنا وأرواحنا.
مجد: أجدت، الأمل رايتنا الكبرى التي نلوح بها من على
مشارف اليأس، عهدًا لن يدخل جيلنا في ذمة العدم، عهدًا لن يدخل جيلنا في ذمة
العدم.
المشهد الأخير
الراوي: مرت سنون ومجد صامد صمود الأرز في جبالنا، لم
يهده تعذيب ولم تهزه نوائب البين والاشتياق والحنين، كان كلما وهنت إرادته يشحذ
همته ويستحضر صورة أبيه في ذهنه ويخال إليه أنه يقول إليه اصبر فالصبر مفتاح
الأمل، قدرك أن تدفع ثمن أخطائك، وألا تفرط بأمانة جيل وأمانة وطن وأمانة أمة.
مرت سنون، وإذا بالسجان يسر إليه بأمر الإفراج عنه
قائلاً: ” عد إلى بلادك، كل ما نريد أن نعرفه عرفناه، وسرك لم يعد سرًا، لقد
توصلنا إلى كل ما سبق لك وتوصلت إليه، عد إلى بلادك ماضيك سر لم يعد يؤرقنا، لقد
سبقك الزمن، وعقلك تناهشته صفرة العفن، ولن تستطيع أن تكون غير ما كنته، أنت الآن
عالم محكوم بالضياع، عالم لن يستطيع بعد أن يعرف شيئًا، عالم مع حفظ الفارق، عالم
مع تحفظ، فامض اليوم إلى حتفك بنفسك، كما مضيت بالأمس إلى ضياعك.
(يدخل مجد منزله منهكًا بشكل باد، فيقترب منه ولد في
التاسعة من عمره)
الصبي: من أنت؟
أبي، أمي، هناك سارق في منزلنا…
(يخرج سعيد وسيرينا إلى غرفة الانتظار على عجل)
سعيد: مجد؟
سيرينا: مجد؟ ما الذي أصابك؟
مجد: قصة طويلة؟ أين أندريا؟
سعيد: أندريا تزور قبر ذويك كعادتها، لن تتأخر كثيرًا
سيرينا: (تشير إلى الصبي) هذا مجد ابن أخيك سعيد.
سعيد: تراك تتساءل عن سبب وجودنا ها هنا…
لم يكن بإمكاننا أن ندع أندريا تعيش لوحدها، بخاصة وأن
أخبارك قد انقطعت منذ زمن بعيد.
سيرينا: لقد غدا بإمكانك أن تمسح الوحدة عن جبين شقيقتك.
سعيد: سيرينا، اجمعي ما تبقى من حاجتنا على عجل.
مجد، أراك وحيدًا، قل لي أين لين؟
ولماذا انقطعت أخبارك طوال هذه المدة؟
لا تستطيع أن تتخيل حجم الألم الذي تسببت به لأندريا
لكن لتسترح أولاً وكل شيء سيغدو على ما يرام
سيرينا: سحنتك تدعو للرثاء، قل لنا ماذا حل بك، ولماذا
أتيت بمفردك؟
مجد: أشكر الله أن قلوبكم ما زالت تتسع لصديق.
سيرينا: مخطئ إن ظننت أن طول الغربة قد يفسد المودة
ويولد الجفاء.
سعيد: ألست أنت القائل أن الصداقة عصية على الزمن؟ لكن بالله
عليك أخبرني ماذا حل بك؟
مجد: قصة طويلة، الحمد لله على كل شيء
مجد تعال وغص بي نحوي
وحدك من ينير الأمل في عتمة هذه الأمة
صدقت يا خليل حاوي:” كفاني أن لي أطفال أترابي ولي
في حبهم خمر وزاد”
سيرينا، هل لي بقهوتي المعتادة؟
سيرينا: بالطبع، دقائق وركوة القهوة تكون جاهزة.
مجد: مجد تعال وغص بي نحوي…
وأنت يا صديقي هل ما زالت أذناك تتسع لكلماتي؟
سعيد: وستتسع طالما أني حي أرزق…
مجد: إذن إليك البيان الآتي…
كان ما كان…
عالم في الفيزياء النوويّة غادر أحبته وأصدقاءه وأهله
بحثًا عن حب قديم…
(تقفل الستارة على صوت مجد وهو يسر لصديقه أحداث ما جرى)
تمت
مسرحية الوعد: باسل بديع الزين
للتواصل مع الكاتب عبر الفايسبوك: https://www.facebook.com/bassel.b.elzein