بعد الانهيارات العسكرية التي شهدتها محافظات عراقية عدة جراء الهجمات التي شنتها «الدولة الاسلامية» في كل الاتجاهات بعد سقوط الموصل، والتي هددت امن واستقرار اقليم كردستان وعاصمته اربيل، وبعد عملية الاستيلاء على كامل محافظة الرقة السورية ومحاولات استكمال الهجوم باتجاه ريف حلب والحسكة، كان من الطبيعي ان تعلن حالة الاستنفار العام في العراق وفي اقليم كردستان، وان تتحرك عواصم القرار الدولية والاقليمية من اجل احتواء هذا المدّ العسكري الذي بات يهدد بالغاء كل الحدود التي انتجتها اتفاقية سايكس ـ بيكو والاتفاقيات اللاحقة لمؤتمر السلام الذي انعقد في باريس عام 1919.
كانت الولايات المتحدة قد شعرت باخطار التهديد الجديد، وهذا ما دفع الرئىس باراك اوباما الى اجراء تعديل اساسي في الاستراتيجية التي اعتمدها ودافع عنها منذ توليه الرئاسة والتي قضت بالانسحاب من العراق، وبعدم التدخل عسكرياً في صراعات المنطقة، بما فيها الصراع السوري، وذلك بالرغم من تفاقمه والتسبب بمقتل ما يزيد على مئتي الف مواطن، وتهجير ما يقارب تسعة ملايين آخرين.
قرر الرئىس اوباما التدخل عسكرياً في العراق من خلال شن غارات جوية متلاحقة، ومن خلال ارسال مئات المستشارين العسكريين الى الشمال والى بغداد من اجل العمل على احتواء مدّ «داعش» ووقف التهديد باتجاه اربيل وبغداد، بالاضافة الى تسريع عمليات شحن الاسلحة والذخائر لقوات «البيشمركة» الكردية، وقوات الجيش العراقي، لتمكينها من الصمود ومن ثم شن هجمات ردية لاستعادة بعض المدن والمواقع الاستراتيجية، ابدى العديد من الدول الاوروبية والاقليمية الاستعداد للمساهمة في دعم الاقليم الكردي والحكومة المركزية العراقية من اجل احتواء تمدّد «داعش» واستيلائها على مدن ومناطق جديدة، ومن أجل بناء القدرات العسكرية للازمة للمرحلة الهجومية اللاحقة.
أسارع لأقول أن المعركة اللاحقة ستكون طويلة، وسيقودها تحالف دولي – اقليمي، ومن خلال منظور استراتيجي يتناسب مع الخطر الذي باتت تمثله الدولة الاسلامية ليس فقط للعراق وسوريا، بل تتعداه الى الغرب وذلك من خلال التوصيف الذي صدر عن الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة اركان الجيوش الاميركية حيث رأى فيه «تهديدا مباشرا للغرب بالاضافة للشرق العربي، وذلك يعود «لانضمام آلاف الاوروبيين والاجانب للتنظيم، وهم يملكون جوازات سفر تخولهم العودة بحرية الى بلدانهم والى الولايات المتحدة». وكان وزير الدفاع تشاك هيغل قد حذّر بقوة من الخطر الذي يمثله «داعش»، معتبرا أنه «يتعدى كل التهديدات التي عرفناها في السابق، وذلك بسبب امتلاكه قدرات مالية ممتازة، ولاظهاره قدرات تكتية متطورة، ولنجاحه في فرض «الخلافة الاسلامية» بقوة البطش». ورأى خبراء عديدون أن «داعش» اثبتت أنها من «أنجح» التنظيمات الارهابية في التاريخ حيث نجحت في فرض سيطرتها على مناطق واسعة جداً من العراق وسوريا بسرعة متناهية بحسب الخبراء.
سيواجه الغرب، دون شك، خطر الارهاب عند عودة هؤلاء المقاتلين الى الدول التي جاؤوا منها، لكن يبقى هذا الخطر محدوداً ومتأخراً. وذلك قياسا على الاخطار المصيرية التي يواجهها العراق وسوريا وبعض الدول المجاورة، التي باتت تدق على ابوابها بقوة.
لكن يبقى من المنطقي ان يسارع المسؤولون الاميركيون الى دق ناقوس خطر وصول الارهاب من جديد الى بلادهم وذلك انطلاقاً من الجرح العميق الذي تسببت به هجمات 11 ايلول، والذي لم يندمل بعد، بالاضافة الى ضرورة ايجاد اجواء دراماتيكية في التعاطي مع «داعش» واخطارها وذلك في خطوة مدروسة لاعطاء الرئيس اوباما العذر المحل للتخلي عن سياسة «نفض اليدين» التي اعتمدها خلال اكثر من ست سنوات تجاه كل ما يجري من تحولات كبرى في الشرق الاوسط، والتي باتت تهدد بتغيير الخريطة السياسية وبتهديد المصالح الاميركية الحيوية.
في رأينا كان ردّ الغرب على التطورات الدراماتيكية في كل من العراق وسوريا حذراً ومحدوداً، حيث اصرّت واشنطن وحلفاؤها على ضرورة وجود معالجات سياسية سريعة للاوضاع الشاذة في العراق، وعلى ضرورة تجاوز كل الخلافات والصراعات الداخلية بين السلطة والسنة والاكراد، وان يتعاون الجيش العراقي و«البيشمركة» الكردية للاستفادة على الارض من الضربات الجوية التي تنفذها المقاتلات الاميركية. في نفس الوقت تعهدت كل من المانيا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا بتقديم المساعدات العسكرية اللازمة للاكراد وللجيش العراقي.
يبدو أنه قد صدرت تعهدات من الجانب العراقي بتصحيح الاخطاء التي أدت الى تفسخ الوضع الداخلي العراقي سياسيا وأمنيا، حيث جرى تكليف الدكتور العبيدي بتشكيل حكومة جامعة، تحقق المصالحة الوطنية وتؤمن التفاف جميع الافرقاء حول الدولة المركزية. لكن ذلك لن يحل واقع تمدّد «داعش» في سوريا واعلانها عن قيام اقليم الخلافة هناك. تتطلب المواجهة لاحتواء الهجوم العسكري المستمر هناك ان تقرّر الدول الغربية الجهة التي ستتعامل معها على الارض لاحتواء المدّ «الداعشي».
من الواضح ان النظام السوري قد خسر على الارض كل المواقع الحصينة التي كان يمكن من خلالها التأثير على ما يجري في الرقة ودير الزور وحلب وادلب. ولم يبق لديه من وسيلة للتأثير سوى اللجوء الى شن المزيد من الغارات الجوية والقصف الصاروخي البعيد، لكن ذلك لا يمكن ان يشكل وسيلة حاسمة لاحتواء تمدد «داعش» باتجاه الحسكة والمناطق الحدودية مع تركيا ويبقى البديل الوحيد لذلك هو في تقوية الفصائل العسكرية «المعتدلة»، ومدّها بالسلاح المتطور والفعال في مواجهة «داعش»، مع ضرورة العمل على توجيه ضربات جوية اميركية واوروبية حاسمة ضد قوات الدولة الاسلامية من اجل تدمير قدراتها الهجومية، وذلك على غرار ما حدث في ليبيا في عملية شل قدرات نظام القذافي الهجومية.
بالرغم من كل التحركات السياسية والحراك الديبلوماسي الذي شهدته عواصم المنطقة، وخصوصاً التحركات الايرانية والخليجية، فانه يجب ان نعترف بأن الدول العربية والاسلامية ستبقى غير قادرة للتوافق على الاسس الموضوعية لبناء تحالف يمتلك الاستراتيجية والقدرات العسكرية والنفس لمواجهة اخطار الدولة الاسلامية سواء عسكرياً او ايديولوجياً للتطرف الجهادي والتكفيري.
من هنا فان الوضع سيبقى كما نشهده الآن مقتصراً على عمليات احتواء «داعش» في العراق، وذلك بانتظار بلورة مبادرة ديبلوماسية اميركية من اجل تشكيل تحالف دولي واقليمي (عربي واسلامي) قادر على تنفيذ استراتيجية مواجهة شاملة تضعها ادارة اوباما مع حلفائها الاوروبيين، على ان تشمل المسرحين العراقي والسوري، لان اي مواجهة لا تشمل «داعش» في المسرحين ستكون عقيمة، وتطيل امد الصراع وتزيد من تداعياته الاقليمية.
في التحليل المقبل سنحاول البحث لاستطلاع عناصر مثل هذه الاستراتيجية الشاملة للمواجهة.
نزار عبد القادر