ليست رسالة اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، كسواها من الرسائل التي توجّه في المناسبات السياسية أو القتالية، إنها الأشد دلالةً والأكثر تحديدًا ووضوحًا بالمفهوم الاستراتيجي للصراع، وهي بالطبع أبعد من أن تحصر في مدى الحرب المنلعة الآن أو بالهدنة وحتى ما بعد انتهاء هذه الهدنة، إنها رسالة إستراتيجية بعيدة المدى، وواسعة الصدى.
ينطلق سليماني في رسالته بتحديد معايير التعاطي مع القضية الفلسطينية بشكلٍ عام، ومع ما يجري في غزة بشكلٍ خاص، فـ”الشهادة في فلسطين أمنية، ونزع سلاح المقاومة وهمٌ لن يتحقق”.
تتميز رسالة سليماني عن سواها من رسائل الدعم التي تطلق في مثل هكذا مناسبات بدقة التعبير، وبشدة الالتزام، فهو يجزم إنّ “نزع سلاح المقاومة أحلام يقظة لن تمرّ”، وإنها “أمنيات جائرة كالحة مآلاتها المقابر”، معلناً في نصٍ صريحٍ وواضحٍ لا يقبل التأويل “ليعلم العالم أجمع أنّ نزع سلاح المقاومة هرطقة باطلة ووهمٌ لن يتحقق”.
لم يأتِ كلام سليماني من العدم، ولا هو مجرد شحنة معنوية أراد تقديمها للمقاومين في غزة، هي رسالة للآخرين أيضاً، الذين بدأوا يسربون عناوين استكشافية حول إمكانية سحب سلاح المقاومة، وحول مدى إمكانية إسقاطها على الواقع الفلسطيني، ربما يتفهم سليماني أن تأتي دعوة سحب السلاح من العدو الصهيوني، لكن ما لا يمكن تفهمه هو أن تنال هذه الدعوة قبولًا لدى بعض أطراف في المنطقة.
ربما جاءت دعوة سحب السلاح للرد على كلام مرشد الثورة السيد علي خامنئي الذي دعا الى تسليح الضفة الغربية للدفاع عن نفسها، الأهم في كلام السيد خامنئي أنه أبدى استعدادًا واضحًا حيال مهمة التسليح تلك، هنا جاءت رسالة سليماني لتكمل ما كان بدأه الإمام الخامنئي من دعمٍ وتأييدٍ من جهة، وللقول بأنّ نزع سلاح المقاومة هي أضغاث أحلامٍ ربما تراود البعض لكنها عاجزة عن إيجاد تجلّياتها على أرض الواقع من جهةٍ أخرى.
أهمية رسالة سليماني أنها تأتي استنادًا الى معايير دينية تدخل في صلب العقيدة الدينية، بما يجعل من عملية الدعم فرض عينٍ على أي مسلم، خلافًا للمعايير المدنية التي يستند اليها القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني حول مفهوم المقاومة وتعريفاتها ومسوّغاتها القانونية.
صحيحٌ أنّ شرعية المقاومة ضد الاحتلال باتت من المبادئ المكونة للمواثيق والأعراف العالمية منذ القرن الماضي، وأنها تحوّلت إلى بديهية مسلّم بها في أدبيات الأمم المتحدة والمواثيق الدولية الأخرى، إلا أنها من وجهة نظر سليماني هي تكليف ديني لا يمكن التخلي أو التخلّف عنه، لذلك نراه يقيم الربط المحكم بين حق المقاومة والآيات القرآنية التي تسند هذا الحق لا بل تحضّ عليها.
لا تفترق رسالة سليماني كثيرًا عن رسالة السيد حسن نصرالله التي وجّهها للمقاتلين أثناء عدوان تموز، وإن كانت تحتمل أبعادًا أخرى أكثر اتساعًا تشمل المقاتلين والعدو الصهيوني والأطراف السياسية الأخرى في المنطقة لا سيما تلك التي تراودها أحلام إسقاط سلاح المقاومة.
فالتوقيت إذًا مرتبطٌ بشكلٍ جدلي مع التسريبات التي ظهرت حول إمكانية سحب سلاح المقاومة، ربما لم تكن طهران تودّ الظهور في صورة الصراع الميداني والسياسي إلا كمراقب حذر ومتابع عن كثب، فهي تدرك جيدًا قدرات المقاومة وما ساهمت في زرعه من إمكانات يجنّبها القلق على المقاومة ومصيرها في الميدان، أرادت إعطاء الصراع بعده الفلسطيني الصهيوني البحت، لكن عندما يقترب الأمر من المساس بالاستراتيجيات فإنّ لإيران كلمتها، عبّر عنها سليماني بدقة شديدة، محور المقاومة الذي تقف إيران على رأسه لن يسمح بالمساس بالثوابت، أو بالمقدسات الفكرية والسياسية والنضالية، وإنّ محور المقاومة بأفرعه كافةً يراقب سير المعركة، وهو جاهزٌ للتدخل بشكلٍ مباشرٍ عندما تدعو الحاجة وحيث يقتضي الأمر.
أراد سليماني برسالته هذه أن يبعث رسالة تطمينٍ واطمئنانٍ للمقاتلين أولًا، مفادها أنكم لستم وحدكم في الميدان، وأراد أيضًا أن تكون رسالته رسالة تطمينٍ واطمئنانٍ للشعب الفلسطيني، بأنّ مقاومتكم المشرّفة والصامدة في الميدان تستند الى ظهيرٍ قوي ومستعد للقيام بواجبه الجهادي عندما تدعو الحاجة أو يستوجب الأمر، كذلك هي رسالة تطمين واطمئنان لعموم جمهور المقاومة في الوطن العربي والعالم أيضًا.
لقد شارك سليماني سماحة السيد حسن نصرالله في رسالته للمقاومين بلاغة القول ودقة الموقف وسلامة النية بقوله: “إنّ الشهادة على خط فلسطين أُمنية يتوق إليها كلّ مسلمٍ شريف، ويفخر بها أحرار الإنسانية”.
لقد انطلق سليماني في رسالته من المعيار الديني القائل بأنّ المؤمنين أشداء على الكفار، رحماء فيما بينهم، استنادًا الى هذا المعيار يبدأ مخاطبته بالقول “أيها الأحبة في فلسطين، كل فلسطين، وفي غزة الصمود والمقاومة.. سلام الله عليكم يا من تسطّرون في هذه اللحظات المجيدة من تاريخ أمتنا والإنسانية الحرة، أسمى آيات البسالة ومواجهة العدوان الغاشم على شعبنا الفلسطيني البطل في غزة.. يا من تلقّنون العدو المحتل ومن وراءه والمتآمرين معه من بعيد أو قريب، وهم كثر، أعمق دروس التحدي والعناد للحق والكرامة. إنّ فلسطين هي القلب النابض الذي يضخ الدماء في شرايين البشرية ليهب الإنسانية حياة جديدة في كلّ حين، وفلسطين هي من تهب العالم العنفوان، وتسقي بدماء أبنائها وأطفالها المظلومين سنابل الحرية والتحرر، فتهزّ الضمائر وتوقظ الشعوب من سباتها العميق. إنّ فلسطين في هذا الزمن، هي الحد الفاصل بين الحق والباطل وبين الجور والعدالة وبين الظالم والمظلوم.. إنّ فلسطين هي البركان الإلهي الذي لا يمكن إخماده إلا بدحر الغاصب المحتل..”
هذا النص الرائع الذي خاطب به سليماني المقاومين يؤكّد أنّ رسالته بقدر ما حملت من الرقة والمحبة والتضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته لتزرع الطمأنينة في النفوس، وكأنه يقول لا تخشوا فأنتم الأعلون، بقدر ما كانت شديدة القسوة والدلالة للخصوم ولمن يحاولون تضييع جهاد ودماء وتضحيات الشعب الفلسطيني، القول للجميع نحن هنا واليد على الزناد فلا تقرأوا خطأ فتندمون.