أمرُ الخلافة وتقسيم المنطقة ليس جديداً، إنه المخطّط القديم الجديد الذي تسعى من خلاله أميركا وبريطانيا إلى تقسيم المنطقة دويلات مذهبية وإثنية لتأمين أمن “إسرائيل”.
وها هي هيلاري كلينتون تعلن في كتابها أنّ داعش صناعة أميركية بامتياز لخدمة أهداف محدّدة، علماً أنّ الأمر يرجع الى العام 1957 عندما قرّر الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور، مع رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان، خطّة للرّد على نتائج مواجهة 1956 مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
كانت سورية، إضافةً الى مصر، على رأس لائحة الدول المستهدفة بنتيجة التحولات الداخلية فيهما، وكان لا بدّ من التفتيش عن أدوات تنفيذية للإطاحة بالأنظمة الجديدة الناشئة في سورية ومصر، ومن هنا ذهبت الخيارات باتجاه حركة الإخوان المسلمين التي تتناقض مع التوجهات الإشتراكية للحكم في مصر وسورية، وهذا ما يفسّر احتضان بريطانيا أولاً وفيما بعد أميركا لقيادات حركة الإخوان المسلمين.
هي الاستهدافات نفسها والأدوات نفسها والمواجهة المستمرّة التي لم تهدأ بعد. والإنطلاقة الجديدة للمخطط بدأت عام 2003، عندما أسقطت أميركا العراق وتوجّه كولن باول الى سورية ليبلّغ الرئيس بشّار الأسد ضرورة الإنصياع والخضوع، وكلّنا نعرف كيف انتهت تلك الزيارة التي ختمها الرئيس الأسد بحزمٍ عندما وقف وأعلن انتهاءها، وهو الأمر نفسه الذي حصل مع الرئيس إميل لحود. وللتذكير، فإنّ هذه الإملاءات تضمنّت الطلب من سورية قطع علاقتها بإيران وطرد قيادات المقاومة الفلسطينية من سورية وإنهاء العلاقة بحزب الله. لم تطل المدّة ليصدر مجلس الأمن في 2 أيلول من سنة 2004 القرار 1559 القاضي بمحاسبة سورية وإملاء العديد من الشروط عليها بهدف إخضاعها. وكان لا بدّ من تحضير أجواء الإنقسام على مستوى المنطقة على قاعدة مذهبية تسهّل تنفيذ المخطط، فجاء يوم 9 شباط 2005 ليحمل معه خبر استشهاد الرئيس الحريري عبر عملية اغتيالٍ لم يتم كشف خباياها حتى الآن، وما زالت ترددات زلزالها تتفاعل حتى اليوم.
فجميعنا نعرف كيف تمّ توجيه الإتهام بعملية الإغتيال لسورية وحزب الله منذ اللحظة الأولى. في تموز 2006، واجهت المقاومة اللبانية عدواناً واسعاً وكبيراً ضمن أجواء وظروف غير مؤاتية وتحمل الإتهام بالمغامرة وعدم الحكمة، وكان هدف الحرب الأساسي كسر جناح سورية القوي في لبنان لإجبارها على الخضوع ضمن الشروط والإملاءات الأميركية، إلاّ أنّ النتائج جاءت عكس ما خطّط المخطّطون وانتهت حرب تموز بانتصار كبير للمقاومة. وتذكيراً، فإنّ أهداف هذا العدوان كانت تدمير البنية التحتية للمقاومة واعتقال وقتل كل قيادته وإنهاءه بشكلٍ كامل، ما ينفّذ أحد طلبات كولن باول من الرئيس بشار الأسد.
هذه الحرب جرت في أجواء من العداء قادتها قوى 14 أذار وشكّل تيار المستقبل ذو الأغلبية السنية رأس الحربة فيها. لم تقتصر الأمور على مجرّد مواقف سياسية وحقن للشارع، بل ذهبت الأمور باتجاه الصدام في الشارع عسكرياً في 7 أيار عام 2008، وللتذكير فإنّ 7 أيار سبقه القراران الشهيران القاضيان بنزع سلاح الإتصالات عبر الشبكة الأرضية التي كان لها الدور الأكبر في احتفاظ المقاومة بميزة القيادة والسيطرة خلال عدوان 2006 وساهم في انتصارها، ولا ننسى إقالة رئيس جهاز أمن المطار الذي تم توجيه إتهامات له بأنه يسهّل أمور حزب الله والعديد من الأمور الأخرى.
في أواخر العام 2008، شنّت القوات الصهيونية هجوماً عنيفاً على قطاع غزّة ووجهة الإخضاع الأساسية كانت سورية، من خلال عزل ساحة الميدان في غزّة عن التأثير السوري والإيراني.
الأمر نفسه تكرر في غزة وانتصرت المقاومة بعد صمودٍ أسطوري يتجدّد هذه الأيام بشكلٍ غير مسبوق في تاريخ الصراع مع الحركة الصهيونية. وهبّت رياح “الربيع العربي” في تونس وليبيا ومصر واليمن، وكان واضحاً وما زال البصمة “الإخوانية” في عاصفة الربيع. الهجمة الأكبر والأشرس والأطول والتي ما زالت مستمرة تجري حالياً في سورية، وما زال المخطِّطون يملكون القدرة على تعديل السيناريو بشكلٍ يخدم مخطّطهم. في سورية كان روّاد الهجمة يُدركون هشاشة المعارضة “الديموقراطية العلمانية”، وكان المراد هو نقل السلطة الى الإخوان المسلمين كما حصل في تونس ومصر، الآّ أنّ صمود الجيش السوري نقل المشهد الى سيناريو آخر تمثّل ببدء استقدام المتشدّدين من كل حدبٍ وصوب، وكان عماد القوّة المتشدّدة يعتمد على مجموعات القاعدة التي قاتلت تحت إسم “جبهة النصرة” وأسماء إسلامية أخرى على حساب ما يسمىّ “بالجيش السوري الحر”. ما قالته هيلاري كلينتون كان الفيصل في حسم النقاش حول نشأة “داعش”، التي تمّ الإتفاق مع “الإخوان المسلمين” على إنشائها للإطاحة بجغرافيا الدول التي تتشكّل منها المنطقة العربية.
في أكثر من بحثٍ سابقٍ بيّنّا أساليب وطرق عمل داعش في التوسّع والإنتشار، والتي اعتمدت على السيطرة على مواقع النفط والسدود المائية وآخرها سد الموصل الذي تشكّلت السيطرة عليه تهديداً جديّا وحقيقياً للعراق، كما تشكّل سيطرة داعش التهديد نفسه من خلال سيطرتها على مناطق النفط والسدود في سورية. من خلال دراسة أساليب وطرق عمل داعش يتبين أنّ صيتها صار يسبقها الى المناطق التي تغزوها، فتسقط مناطق بأكملها دون مقاومة بنتيجة الخوف والرعب الذي نشره هذا التنظيم من خلال عمليات القتل والذبح التي نفذّها في حق جميع الأطراف.
الأمر غير المبرّر هو لماذا يُسمح لداعش أن تستخدم مواقع التواصل الإجتماعي التي يعمد القيمون عليها الى حذف حسابات لمجرّد مخالفتها لأبسط معايير تشغيل الحسابات، فيما تستمر مواقع داعش على شبكة الانترنت في بثّ بطشها وإرهابها، وهذا الأمر إن دلّ على شيء فإنماّ يدلّ على رضى أجهزة الإستخبارات التي درّبت وسلّحت داعش وتشرف على عمليات تقدمها وانتشارها. أمّا وأنّ الأمور وصلت الى ما وصلت اليه، فبات ضرورياً وملحًّا القيام بإجراءات جماعية للدول المستهدفة بالتعاون والمؤازرة من قبل الدول الداعمة لدول المواجهة مع داعش. فما يحصل في عرسال ليس منفصلاً عمّا يحدث في الموصل، فالمنفّذ واحد والمستهدف معروف.
وعليه، فليس هناك مفرّ من البدء بتنفيذ إجراءات تعني لبنان والعراق وسورية ميدانياً واستخبارتياً، من خلال ايجاد قنوات اتصال وقيادة وتشكيل غرفة عمليات استخبارتية بين الدول الثلاثة، وغرفة عمليات ميدانية عسكرية بين سورية والعراق وأخرى بين لبنان وسورية. فما يجري يتجاوز المراهقة السياسية التي يمارسها بعض الأطراف ويكابرون ويبرّون بحسب مصالحهم، التي هي جزء من المخطّط الذي ساهموا في إيصاله الى هذا المستوى من خلال العمل على الفرقة ونشر المذهبية والطائفية. وها هي داعش لا توفّر أحداً ممّن تحالف معها سواء في العراق أو في سورية أو حتى الاكراد، وربمّا أميركا التي ستنقلب داعش عليها عاجلاً أو آجلاً كما فعلت القاعدة سابقاً، وكما حصل في عرسال التي مارست داعش والنصرة بحق أهلها الذين آزروهم ووقفوا معهم من خلال تهديدهم والبطش بهم وعدم مراعاة أية علاقة.
في لبنان يجب رفع وتيرة الاستعداد السياسي والعسكري وتوقع احتمال الأسوأ وعدم اعتبار ما جرى في عرسال هو نهاية الأمر وأنّ داعش ماضية في مخطّطها في تأمين منفذ بحري لها، وهذا ما يمكن أن توفّره من خلال مدينة طرابلس والاندفاع منها مجدّداً باتجاه حمص عبر الشمال اللبناني خصوصاً أنّ ما جرى في حقل الشاعر يؤشّر في هذا الإتجاه.
في سورية يجب البدء بزجّ أسلحة نوعية في المواجهة كدبابات t-80 وطائرات mig-29 لحسم الأمر بسرعة أكبر. في العراق يبدو ضرورياً وضع أعداد كبيرة من المتطوعين الراغبين في المواجهة لإحداث تفوق عددي على مقاتلي داعش بانتظار تحديث سلاح الجو العراقي.
إنّها معركة وجود تسلتزم من الجميع تجاوز التفاصيل ووعي مخاطر الهجمة، وإلاّ فإنّنا جميعاً سنكون ضحية مرحلة من الجهل والتخلف ربما تمتدّ الى عشرات السنين القادمة. ضابط سابق (خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية).