مرة جديدة نجح لبنان في احتواء ارتدادات قتل الرقيب علي البزّال من قبل خاطفيه في «جبهة النصرة»، على خلفية عدم تجاوب السلطة اللبنانية مع المطالب التي تقدموا بها بواسطة الوسيط القطري أحمد الخطيب.
تعالت عائلة البزّال على جراحها واعتمدت الحكمة والصبر في تعاطيها مع هذه الجريمة النكراء التي نفذتها «النصرة» بدم بارد، وجاء التضامن الشعبي والسياسي مع العائلة ليحصّن موقف العائلة، وليعبّر عن وحدة الشعب بكل فئاته ومذاهبه ومشاربه السياسية في مواجهة هذه الموجة الارهابية والتي يدرك الجميع بأنها باتت تستهدف وحدتهم وأمنهم واستقرارهم ونظامهم.
جريمة قتل البزّال لن تغيّر في مسار الازمة التي يواجهها لبنان جراء احداث عرسال في آب الماضي، وخطف العسكريين من قبل تنظيمي «داعش» و«النصرة» واستعمالهم كورقة ابتزاز للبنانيين ولدولتهم، وبأسلوب وحشي وقذر ومن خلال التهديد بقتل بعضهم، وتنفيذ جرائمهم بشكل متماد.
دخلت هذه الازمة في مرحلة جديدة بعد تنفيذ الجريمة الاخيرة وبعد اعلان وزارة الخارجية القطرية عن انسحاب قطر من دور الوساطة الذي قامت به خلال الاشهر الماضية. ادى انسحاب قطر من وساطتها الى وضع الحكومة واهالي العسكريين امام حائط مسدود، وفي حالة من الضياع الكامل، حيث انه لم يتحضّر اي من الطرفين لمواجهة مثل هكذا حالة من الشك والغموض. اجتمعت الخلية الوزارية المكلفة بمتابعة أزمة الرهائن العسكريين على أثر التطور الدراماتيكي الاخير، ولم تعرف بعد طبيعة القرارات التي اتخذت او حتى مسار المناقشات التي حصلت، او مستوى توافق المجتمعين على رؤية موحدة لمعالجة الامور، وخصوصاً لجهة القيام بخطوات فورية لمنع تنفيذ «النصرة» لتهديدها بقتل عسركيين آخرين بعد علي البزّال.
«من يزرع الريح يحصد العاصفة» هذا هو حال الحكومة التي واجهت ازمة اللاجئين السوريين وفلتان الحدود وخصوصاً في عرسال وجوارها بحالة من انعدام الرؤية والمسؤولين. لم تستطع الحكومة بمكوناتها السياسية المنقسمة حول كل شيء من توحيد رؤيتها وتقييمها لمخاطر تساقطات الازمة السورية، وخصوصا لجهة تنظيم اللجوء السوري الى لبنان على غرار ما فعله الاردن وتركيا، الى الالتزام بسياسة «النأي» بالنفس التي وعدت بتنفيذها، والتي كان من المفترض ان تشكّل المحور الاساسي في اولويات الحكومة السلامية، والتي ضمّت كل القوى السياسية.
هذا في السياسة، اما على الارض فان الحكومة قد فشلت في استدراك مخاطر حالة اللجوء على عرسال ومحيطها عند بدء معركة القلمون ومشاركة حزب الله بقوة فيها الى جانب النظام السوري. في الوقت الذي كان يفترض ان تعمل فيه القوى السياسية داخل مجلس الوزراء انطلاقاً من تقاطع المصالح بينها، فقد عملت باستحضار وتنافر المصالح الناتحة عن تأييد بعضها للمعارضة السورية وتأييد الآخرين للنظام السوري، والذهاب الى حد الانخراط في الحرب. جرى ذلك وغطّى كل فريق دوره بالادعاء بأنه يحرص من جراء ذلك الى منع الفريق الآخر من التخريب على الوطن والنيل من استقراره، وحرصاً على وحدة وفعالية مؤسساته الأمنية. ونحن الآن امام استمرار هذه الحالة الانقسامية داخل مجلس الوزراء في داخل خلية الازمة في كل المقاربات التي اعتمدت حتى الآن في معالجة ارتدادات الوضع في منطقة عرسال بما فيها مسألة تحرير العسكريين الرهائن لدى جبهتي «النصرة» و«داعش».
ظهرت فداحة هذا الانقسام والعجز في مواقف الحكومة إبان احتلال المسلحين السوريين والمتعاونين معهم لبلدة عرسال وقتلهم لعدد كبير من العسكريين واحتجاز عشرات منهم، حيث تلقف رئيس الحكومة مبادرة «هيئة علماء المسلمين» للتفاوض مع المسلحين من اجل تأمين انسحابهم من عرسال. كانت هذه الهيئة قد حاولت القيام بدور مماثل اثناء عملية «عبرا»، في محاولة منها لانقاذ احمد الأسير ورفاقه. شكلت مبادرة هؤلاء والنتائج التي انتهت اليها بانسحاب عناصر «داعش» و«النصرة» من عرسال ومعهم الرهائن العسكريين دون اي قتال. كنت شخصياً ومنذ محاولة تدخل الهيئة في «عبرا» وبعدها في عرسال ضد هذا المسعى، كما ابديت تحفظاتي على تشكيل هذه الهيئة والادوار التي يحاول اعضاؤها لعبها. هذه الهيئة هي جديدة على الطائفة السنية، وان اعضاءها لا يمثلون سوى انفسهم، وهي في جميع الاحوال تمثل خروجاً على المؤسسات السنية الدينية والرسمية، بما فيها دار الافتاء والمفتين الممثلين للمناطق. اتسم خطاب بعض اعضاء الهيئة وتحركاتهم في الشارع في دعم بعض الحركات المناوئة للنظام السوري او لحلفائه في لبنان بالتطرف في خطوة استفاد منها بعض الفوضويين او الخارجين عن القانون او المرتبطين بتنظيمات ارهابية او متطرفة، او الذين باتوا الآن معروفين وهاربين من القانون. من هنا فانه يمكن اتهام الهيئة في انتهاج مسيرة داعمة لحالة التطرف المذهبي، وهي الحالة التي تمجّها الطائفة السنية، وتعتبرها غريبة عن تاريخها، وضارة لمصالحها ودورها الوطني الجامع.
لم يكن مفاجئا للمتابعين لنشاط الهيئة والدور الذي يضطلع به بعض اعضائها اعلان رئيس الهيئة الشيخ مالك جديدة استقالته، والتي بناها على اتهام اعضاء فيها بقبض الاموال والارتهان لجهات خارجية. وكانت المفاجأة الجديدة في السرعة التي عمل بها اعضاء الهيئة لاعادة ترميمها وانتخاب رئيس جديد، ومن ثم العمل على استعادة نشاطها السياسي من تحت عباءة المفتي عبد اللطيف دريان، في الوقت الذي كان قد سبق للهيئة ان عارضت بشدة انتخابه.
لكن اللافت في الأمر بأن الهيئة لم تدرك عمق مسؤوليتها عن الحالة المعقدة التي تواجهها الدولة والمخاطر التي يواجهها العسكريون المحتجزون، او الضغوط والمآسي التي تشعر بها عائلاتهم جراء «المبادرة» الاولى الفاشلة التي قاموا بها والتي أمنت لـ«النصرة» و«داعش» الخروج الآمن من عرسال ومعهم الرهائن. لم يدرك بعد اعضاء الهيئة مخاطر اللعبة التي هم في صدد تكرارها، وبأنهم غير مؤهلين من خلال موقعهم او ثقافتهم للقيام بمثل هكذا مهمة معقدة. فالتفاوض قد تحوّل الى علم متطور، يدرّس في مراكز ومؤسسات اكاديمية متخصصة، وهو يتطلب خبرة طويلة ومعرفة عميقة عن البيئة النائمة ومطالب ونفسية ومصالح مختلف اطراف الازمة. والهيئة لا تملك اي شيء من ذلك سوى اعتقادها بأن لديها تفويض «معنوي» او «ايديولوجي» ومونة خاصة على «المجاهدين» الاسلاميين، حتى ولو كانوا من جماعات التكفيريين.
قالت الهيئة بعد اجتماعها بالمفتي دريان بأنها تطلق «مبادرة الكرامة والسلامة»، وهنا نسأل كرامة مَن وسلامة مَن؟ ومقابل اي ثمن؟ ويبقى السؤال الابرز والأهم: هل ان الاشتراط بقبول الحكومة لمبدأ مقايضة عسكريين لبنانيين بمجرمين وارهابيين يؤمن الكرامة الوطنية، وسلامة العسكريين من غدر هؤلاء الذين اثبتوا خروجهم على الدين وعلى كل مبادئ الحرب والانسانية، ان افضل نصيحة يمكن ان يسديها اي عاقل لهؤلاء المشايخ «العلماء»، هي بالقول «اتقوا الله في ما تفعلونه» خصوصاً، بعد الفشل الذي اصاب مبادرتكم الاولى، والتي عرضت تساقطاتها البلد لمخاطر فتنة مذهبية.
تطلب اللجنة تكليفها رسميا من قبل الحكومة وخلية الازمة لاطلاق مبادرتها الجديدة، كما تطالب باطلاق النساء المعتقلات، وهو الامر الذي يعني التشكيك بدور الاجهزة الامنية من خلال الايحاء بأن التوقيف جاء في سياق الانتقام ودون وجود اسباب أمنية. من جهة ثانية فان هذا الطلب سيؤدي الى انتزاع ورقة هامة يمكن للبنان استعمالها في اية عملية تفاوضية مستقبلية. تدعو الحكمة والواقعية ان يزيد لبنان من عدد الاوراق «الضاغطة» التي يمكن ان يستعملها للضغط على الخاطفين، لا ان يتخلى عن الاوراق الراهنة باسم العدالة او باسم مراعاة النساء واعتبارهن خارج الصراع، في الوقت ثبت فيه ضلوع بعضهن بعمليات ارهابية كبيرة.
اذا كان لنا من رأي نبديه فاننا نرى من خلال ثقافتنا وتجربتنا الأمنية ومعرفتنا بطبيعة الجماعات الارهابية، واوضاعهم في منطقة القلمون تدعو الحكومة الى توحيد رؤيتها من اجل معالجة هذه الازمة الخطيرة، وأخذ الامور مباشرة تحت سلطاتها واعتماد عدة خيارات متدرجة ما بين التفاوض والعمل الامني لامتلاك المزيد من الاوراق الضاغطة، وصولاً الى المواجهة العسكرية والتي سيكون للجيش اللبناني اليد العليا فيها.
تعميم المركزي يخفض سعر صرف الدولار؟
بعد أن اصدر مصرف لبنان تعميماً جديداً يلزم المصارف بالحصول على موافقة مسبقة منه قبل فتح اعتمادات او دفع فواتير...