كثيرة هي الأعراض والسجالات التي طفت على سطح الأحداث العربية المتلاحقة خلال السنوات الماضية انطلاقا من الانبهار بالهبات الشعبية التي شهدتها مصر وتونس وصولا إلى الاختلاف في فهم سيرورة الأحداث التي فضحت حقيقة برنامج الأخوان المسلمين وانخراطهم برعاية تركية قطرية في منظومة الهيمنة الاستعمارية والتآمر على محور المقاومة في المنطقة انطلاقا من خطة تدمير الدولة الوطنية السورية لصالح إسرائيل والاستعمار الغربي بقيادة الإمبراطورية الأميركية.
أولا يسترسل بعض القوميين واليساريين في تأمل التناقضات والظواهر التي حملتها الأحداث ويستغرقون في التفتيش عن الوصفات الافتراضية للتعامل معها وهم يحولون الجدال في العصبيات الطائفية والمذهبية التي تصاعدت مؤخرا إلى نوع من النقاش الفقهي واللاهوتي الذي يفترض تركه لمجمعات رجال الدين المشتغلين في جهود التقريب بين المذاهب والحوار بين الأديان بينما الجوهري في هذه الظواهر هو التعامل مع البعد الاجتماعي والسياسي الذي تطرحه بوصفها تجسيدا لمشروع استعماري تفتيتي تسخر له جماعات تكفيرية متطرفة تربت في معاهد الوهابية ونهلت من معينها الثقافي او تدرجت في صفوف مدارس التكفير الأخوانية خلال الخمسين عاما الماضية.
التناقض الرئيسي المحرك لكل ما يدور من أحداث هو بين الأمة العربية ومنظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية بما فيها من حكومات عميلة وتابعة تسعى لتصفية قضية فلسطين ولتدمير منظومة المقاومة التي شكلت النقيض التاريخي للهيمنة الاستعمارية الصهيونية وأبطلت جميع عناصر تفوق إسرائيل وتسيدها في الشرق العربي منذ هزيمة حزيران.
إن تغييب التناقض الرئيسي في فهم الاحداث السياسية يحول النقاش الفكري بشأنها تعاملا محصورا بالنتائج ونوعا من الدوخان في حلقات الموالد من غير طائل ولا يعني ما تقدم أبدا التنكر لقيمة كل جهد فكري وثقافي يستعين بالنصوص الدينية والقرآنية في مجابهة التكفير وفي السعي المنشود لاسترجاع المضللين من براثن شبكات الإرهاب القاعدي ولكن هذا العمل لا بد وان يكون جزءا من سياق نضالي رئيسي هو التصدي للغزوة الاستعمارية الصهيونية بجيمع أدواتها ومظاهرها.
ثانيا إن تشخيص التناقض الرئيسي لا يعفي المقاومين الذين يتصدون للمخطط الاستعماري من معاينة ظاهرة التكفير في البلاد العربية وتقصي جذورها الاجتماعية والسياسية والفقهية كذلك وهذا ليس ترفا فكريا بل هو في صلب المهام لمحاصرة هذه الظاهرة والتصدي لها ومنعها من استقطاب المهمشين والساخطين وتحويلهم إلى ادوات دموية بيد المستعمرين وعملائهم.
ينبغي العمل على فضح ارتباط قادة التكفير بالمستعمرين وتشابك مصالحهم ومواردهم مع الغرب وإسرائيل والحكومات الإقليمية العميلة فمن الضروري مثلا فضح ارتباط جبهة النصرة بإسرائيل على جبهة الجولان وكشف المستور من العلاقة الوثيقة بين داعش والولايات المتحدة وتركيا عضو الناتو وشبكات المصالح المشتركة التي تفضح كونها امتدادا للمخط الاستعماري بينما اكد باراك اوباما هذه الحقيقة عندما وضع حربه على داعش في خانة منعها من الخروج عن السيطرة وبالتالي معترفا بانها كانت تحت تلك السيطرة أداة في تخريب سورية والعراق لاأكثر ولا أقل.
لا بد من مخاطبة المضللين باللغة التي تسمح باستردادهم إلى جانب التصدي لشبكات التكفير الإرهابية بالحزم الكافي لتتصدع تحت وطأة الهزائم وبما يحقق حرمانها من أي مساندة شعبية ومحاصرة مواردها المادية والبشرية وهذا يفترض تحديد الهوية الفكرية والثقافية للقوة المؤهلة للقيام بذلك.
ثالثا برهنت التجربة على مجموعة من العناصر التي ينبغي توافرها لتحقيق هذه الغاية أولها العروبة كهوية قومية وحضارية ترسخ مفهوم وحدة الانتماء في مجتمعاتنا متعددة الديانات والتحدي الأبرز هو تطوير مفهوم ناضج عن العروبة يتسع للمكونات المجتمعية المختلفة ويحتويها ويتعامل باحترام حق تقرير المصير مع الأقليات القومية كالأكراد كما تمثل العروبة العلمانية والدولة الوطنية المدنية اللاطائفية الوصفة التاريخية المناسبة لقبر العصبيات الطائفية والمذهبية وتوليد قوة التماسك الوطني المطلوبة في دحر الغزوة الاستعمارية ومن غير ان يعني ذلك تجاهل واجب فضح التحريض المذهبي والبرهنة المستمرة على الجوهر السياسي للتناقضات والصراعات على خلفية ارتباطها بالتناقض الرئيسي.
لقد برهنت الأحداث على ان التدخلات الاستعمارية الغربية في المنطقة واحلاف الحكومات الإقليمية التابعة للغرب وخططها تستهدف تدمير الدول الوطنية والجيوش والمجتمعات لإخضاع المنطقة مجددا لهيمنة إسرائيل ولإعادة نشر القواعد العسكرية الاستعمارية.
إن ما تتعرض له سورية هو تأكيد صارخ لحقيقة الغزو الذي تنفذه جحافل تكفيرية متعددة الجنسيات من ثمانين بلدا وجيوش مرتزقة محليين بيافطات متعددة تغطيها جبهات وتحالفات سياسية من عملاء المخابرات الأجنبية وأزلام السفارات وهذا الخليط العجائبي الذي انتجته الإمبراطورية الأميركية بواسطة آلاتها الجهنمية الإعلامية والأمنية والعسكرية والدبلوماسية والقانونية واخطبوطها الإمبريالي الدولي هو ما يسمى حتى اليوم بالثورة السورية التي يمجدها بعض العملاء والمخبولين من الكتاب العرب الذين رضخوا لتلك الخرافة وتباهوا بمواقعهم ومآثرهم في صفوف خدم الاستعمار وجوقته التافهة.
غالب قنديل