كانت جلسة مجلس الوزراء اللبناني نهار الثلاثاء 2 سبتمبر باهتة ومملة بالشكل،
ولكنها كانت في بالغ الاهمية في مضمونها. الجلسة خصصت لمناقشة الوضع المالي للدولة،
وموضوعها الأساس كان مداخلة وزير المالية علي حسن خليل الذي استعرض شؤون الخزينة من
جوانبها كافة، وقدم اقتراحا لمشروع موازنة العام 2015.
آخر موازنة تم تشريعها في المجلس النيابي كانت في العام 2005، ومنذ ذلك التاريخ
تسير عجلة الدولة المالية على القاعدة الاثني عشرية، إضافة الى بعض القوانين التي
أُقرت كسلف مالية لتغطية نفقات إضافية استوجبتها حالة التضخم وزيادة النفقات منذ
عشر سنوات. تحذير وزير المالية لا يخفي رغبة بالإسراع في عقد جلسة تشريعية للمجلس
النيابي لإقرار سندات «اليوروبوند» الضرورية لتغطية العجز ـ على ما يحلو لبعض
المعترضين على استعجال الرئيس نبيه بري في عقد جلسات للبرلمان المعطل ـ بل يحمل
مؤشرات في منتهى الخطورة، يوافقه عليها مجموعة من كبار الاقتصاديين، والعارفين في
عالم المال.
من حيث الشكل، لا يجوز لدولة مثل لبنان، لا تملك مقومات إنتاجية كبيرة في
الصناعة والزراعة والمواد الاولية، أن تكون على وضع فيه تنام دائم للعجز في
الموازنة، حيث بلغ 9 آلاف مليار ليرة هذه السنة، والدين العام تجاوز 150% من الناتج
المحلي الاجمالي، حيث تخطى عتبة الـ 65 مليار دولار، ذلك يُشير الى أن الدولة لم
تستقر بعد، والاعتبارات الاستثنائية مازالت قائمة، بحيث ان التدابير المالية
الاستثنائية التي تفرضها أوقات الحروب والأزمات أصبحت هي القاعدة، وهذا مقلق في كل
المقاييس الاقتصادية.
القلق الاقتصادي والمالي في لبنان ناتج عن مجموعة من العوامل، لعل أبرزها
تداعيات الاوضاع المتوترة في سورية والعراق، حيث ألقت أحداث البلدين أعباء كبيرة
على لبنان، وبلغت خسائره وفقا لتقديرات الأمم المتحدة أكثر من 7.5 مليارات دولار،
والأخطر من ذلك هو انخفاض مستوى الاستثمارات الخارجية الى أكثر من 23%، إضافة الى
الاخفاقات في قطاعات السياحة والتجارة والصناعة.
ولعل أبرز ما أشار اليه وزير المالية هو انخفاض مستوى الواردات المالية
الحكومية، وتزايد النفقات العامة. فتراجع العائدات مؤشر في غاية الخطورة لكون مستوى
النمو ليس سلبيا رغم أنه لم يتجاوز الـ 1.5% وفقا لتقديرات جهات متعددة. وهذا يطرح
تساؤلات عن تنامي التهرب الضريبي، وعن وجود انكماش في القطاعات التي تدر دخلا
للدولة، أكثر مما هو مرئي في الأرقام الظاهرة عند المراكز التي ترصد حركة الانسياب
الاقتصادي.
مما لا شك فيه أن العوامل السياسية الداخلية تساهم الى حدود بعيدة في تباطؤ حركة
الاقتصاد اللبناني، ذلك أن التعثر الكبير الذي يصيب حركة الدولة، عامل سلبي يشد
عربة النمو الى الوراء، ويضيف تعقيدات أخرى على التعقيدات الناتجة عن التوتر
الاقليمي. وأبرز هذا التعثر، هو إخفاق البرلمان في انتخاب رئيس جديد للجمهورية،
بدلا من الرئيس ميشال سليمان الذي انتهت ولايته في 25 مايو الماضي. فدولة من دون
رئيس هي دولة شبه فاشلة، لأن رئيس الجمهورية وفقا للدستور اللبناني هو رمز وحدة
الدولة، وهو الضامن للمؤسسات، ووحده الذي يقسم اليمين على حفظ الدستور، وبالتالي
فإن الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية لا يمكن تجاهله في الحسابات الاقتصادية
والاستثمارية. وللفراغ تأثير كبير على سمعة الانتظام العام في الدولة، بصرف النظر
عن مستوى الأداء الراقي الذي يؤديه رئيس الحكومة تمام سلام، والتعاون الذي يبديه
معظم الوزراء في إدارة شؤون الدولة.
أما التعثر الآخر ـ والذي لا يقل أهمية من حيث الشكل ـ عن الأول فهو عدم القدرة
على اجراء الانتخابات النيابية، وبالتالي التمديد لمجلس النواب مرة ثانية، بعد
التمديد الأول الذي حصل العام الماضي وينتهي في 19 نوفمبر المقبل. ومجلس النواب في
الأنظمة البرلمانية هو السلطة الأم، وتستمد منه كل مؤسسات الدولة الشرعية
الدستورية. وعندما تدور الشكوك حول السلطة الأم، ينعكس ذلك بالتأكيد شكوكا على
مختلف مؤسسات الدولة الاخرى.
الاوساط الاقتصادية المتابعة لما يجري، ترى أن الأزمة السياسية المتفاقمة في
لبنان تنذر بتداعيات اقتصادية ومالية خطيرة، والمسؤولية الوطنية تفرض تجاوز بعض
الحسابات السياسية لمواجهة التحديات القادمة، وقبل فوات الأوان. ومن أبرز التحديات
تشريع الإنفاق الإضافي بما يتجاوز مفهوم سلف الخزينة التي هي تدبير استثنائي في
نهاية المطاف، وليس سياقا طبيعيا في مسيرة الدول. ومعالجة موضوع سلسلة الرتب
والرواتب بما لا «يقتل الذئب ولا يُفني الغنم» لأن تجاهل السلسلة كارثة وطنية
بالمفهوم السياسي والمالي، حيث ان الزيادات التي تدفع على الرواتب حتى الآن، لم
يُقر مداخيل تقابلها للجباية، إضافة الى كون التحركات النقابية الناتجة عن ضائقة
معيشية لها انعكاساتها السلبية على مسيرة الدولة، وعلى حياة المواطنين. وترى
الأوساط عينها، أن المراهنة على تغييرات جوهرية في الأوضاع الإقليمية المحيطة
بلبنان قد تكون في غير محلها، لأن الوضع يزداد تعقيدا، ولكن القوى السياسية
اللبنانية يمكن لها أن تستفيد من مجموعة من العوامل المساعدة، لعل أبرزها الاحتضان
العربي والدولي للجيش اللبناني في مواجهة الإرهاب، وتطور الحوار السعودي ـ
الإيراني.