جاء هجوم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” – “داعش” الإرهابي الأخير في العراق ليزيد تعقيدات المشهد السياسي التركي ويعمّق من أزماته. فأنقرة التي رأت تزعزع سياستها في سوريا منذ بدء الحرب هناك وانعكاساتها الخطيرة على الساحة الداخلية، ظلّت ممسكة بخيوط مقبولة في العراق أهمها مع الأكراد في الشمال، ومع بعض زعماء القبائل السنية، ومع تركمان العراق، لا سيما في مدينة كركوك. وقد سعت القيادة التركية إلى التعويض في العراق ما خسرته في سوريا، محاولة فصل تداعيات الحرب السورية عن مصالحها في العراق وحماية مكتسباتها التي جنتها على امتداد العقد المنصرم.
إلا أن هجوم “داعش” الإرهابي أصاب هذه الاستراتيجية التركية في مقتل. فإلغاء الحدود السورية العراقية (في الشمال) أسقط حكماً الفصل بين الملفين، فانفلتت الضوابط وباتت أنقرة تواجه خطراً موحّداً على طول حدودها مع الدولتين الجارتين، أو – كما ذكر بعض المحللين – مع الجيران الثلاثة: العراق وسوريا و”داعش”.
وهكذا بدت تركيا الخاسر الأكبر من سقوط الموصل والحزام السني في وسط العراق وشماله. ولا تزال حتى الآن غامضةً عمليةُ احتلال قنصليتها العامة في الموصل وخطف حوالي خمسين من الديبلوماسيين والعاملين فيها، بمن فيهم القنصل العام، مستشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وأحد المقربين منه شخصياً، بالإضافة إلى حوالي 30 تركياً آخرين من العمال وسائقي الشاحنات.
وقد تجلّت خسارتها الأولى بفقدان ورقتها القوية مع العشائر السنية التي كانت قد وطدتها مستغلة الحنق والإحباط السنيين منذ انهيار النظام السابق، خصوصاً ضد حكومات نوري المالكي الذي يتهمه السنّة (وتتبنى تركيا هذا الاتهام) باعتماد سياسات طائفية أقصتهم عن الحكم وهمشتهم في دولتهم وجعلت من العراق ورقة قوية بيد إيران. فمع اجتياح “داعش” للحزام السني، بدا أن تلك العشائر إما أيّدت الهجوم وساهمت فيه، أو أنها أُرغمت على قبول الواقع الجديد ومبايعة التنظيم المحتل. وما استمرار حجز الرعايا الأتراك حتى اليوم بعد كل هذه الفترة – وبالرغم من تكليف أنقرة زعماء العشائر ووجهاءها بالتوسط والتواصل مع “داعش” – إلا دليل على اضمحلال أهمية هذه الورقة بيد تركيا، وهي التي كانت تعدها بعداً مهماً من أبعاد سياستها العراقية.
أما الخسارة الثانية، وهي الأهم والأخطر، فتمثلت بظهور قوة الأكراد وتعزيز سطوتهم وضم كركوك إلى منطقة حكمهم الذاتي.
فمع انهيار دفاعات الجيش العراقي سريعاً أمام اكتساح المسلحين الإسلاميين، وفرار الوحدات النظامية أو انسحابها، بدا أن الأكراد هم القوة الجدية الوحيدة التي واجهت إرهابيي “داعش” وتصدت لهم وأوقفت زحفهم في أماكن عدة، لا سيما على حدود كردستان العراق والشريط الملتف حوله. وهذا ما لم يرض الأتراك حتماً. إلا أن ما أقلق القيادة التركية حقاً هو سيطرة قوات البشمركة الكردية على مدينة كركوك، المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، والتي تقطنها ثلاث أقليات عربية وكردية وتركمانية، وتخضع لنظام إدارة خاص وضعه الاحتلال الأميركي في العام 2003.
وكانت أنقرة تَعتبر كركوك خطاً أحمر، وبالرغم من اختلافها الكبير مع المالكي وحكومة بغداد عامة حول عدد من القضايا، منها علاقة أنقرة القوية بأربيل، لا سيما منها “العلاقة النفطية”، إلا أن أنقرة كانت تفضّل إبقاء كركوك تابعة للسلطة المركزية في بغداد وترفض رفضاً مطلقاً مطالب الأكراد بضمها لمنطقة حكمهم في كردستان. وهنا يعزو البعض هذا الأمر – بالإضافة إلى محاربة أنقرة لأي توسع جغرافي للحكم الكردي – إلى القيمة الخاصة لكركوك والموصل اللتين تعتبرهما “الذاكرة الوطنية الشعبية التركية” مدينتين فُصلتا جبراً عن الدولة التركية بعد الحرب الأولى.
الآن، ومع احتلال “داعش” للموصل وسيطرة الأكراد على كركوك، أصبحت أنقرة كبالع الموسى. فهي ما زالت عند رفضها التام لضم كركوك للحكم الكردي، ولكنها لا تستطيع إدانة سيطرة البشمركة عليها وهم الذين ملأوا الفراغ الذي أحدثه انسحاب الجيش العراقي، والذي كانت ستملأه “داعش” والمجموعات الراديكالية الأخرى المرتبطة بها بعد انسحاب قوات الحكومة المركزية.
لا بل أكثر من ذلك، ففي رفضها لهجوم “داعش” الذي كانت قد صنّفته تنظيماً إرهابياً، وجدت أنقرة نفسها تؤيّد – بصورة غير مباشرة وغير علنية – دفاع الأكراد عن مناطقهم، وبالتالي عن حقول النفط وأنابيب نقله. وتركيا تعتمد اعتماداً واسعاً على نفط كردستان، وقد تعرضت لغضب بغداد الشديد وانتقادات الولايات المتحدة وأوروبا والمجتمع الدولي لاستيرادها هذا النفط وتسويقه بغير رضا الحكومة المركزية العراقية.
إلا أن مشكلة جوهرية في تأييدها هذا سرعان ما برزت وأجبرت أنقرة على أن تلوذ بالصمت تجاه الأحداث التاريخية والتطورات الدراماتيكية. فبعد احتلال الموصل ومواصلة الزحف “الداعشي”، التفّ الأكراد حول قضيتهم متجنبين خلافاتهم المتشعبة، فأعلنت قيادة “حزب العمال الكردستاني” في جبال قنديل، بإشارة من زعيمها عبد الله أوجلان المسجون في جزيرة إيمرلي التركية، عن تضامنها مع أكراد العراق وعن استعدادها لإرسال مقاتلين لمساندة البشمركة. كذلك أعلن “حزب الاتحاد الديموقراطي” (الذي يُعتبر الفرع السوري للكردستاني) عن إرساله مقاتلين إلى كردستان العراق لمناصرة إخوانهم ضد التنظيم الإرهابي.
هنا أسقط بيد القيادة التركية التي لا تستطيع تفسير وجودها في خندق واحد مع حزب تصنّفه إرهابياً وتقاتله في حرب ضروس منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وهذا ما يفسر الصمت المريب الذي لاذت به أنقرة منذ تطورات العراق الأخيرة، فلا بيان رسمياً للحكومة أو لوزارة الخارجية، بالرغم من الاجتماعات المتواصلة والاتصالات المفتوحة على المستويات السياسية والأمنية والاستخبارية العليا.
وحتى تكتمل مشكلة تركيا في العراق وتتعمق أزمتها أكثر فأكثر، وصلت إلى القيادة التركية المعلومات التي ظهر بعضها في وسائل الإعلام الغربية، والتي تتحدث عن شبكة واسعة من الاتصالات بين القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في الساحة العراقية، كالاتصالات بين واشنطن وكل من طهران وبغداد وأربيل والرياض، وبين موسكو والرياض، وبين العشائر السنية والأكراد، وحتى بين قدامى “حزب البعث” ومقاتلي الصحوات – التي يحاول عزت الدوري الرجل الثاني في نظام صدام حسين قيادتها – والرياض وواشنطن. وقَعت هذه المعلومات وقعاً سيئاً مقلقاً في آذان القيادة التركية التي شعرت باستثنائها في العراق الجديد تماماً.
وهكذا، ولأجل مواجهة هذه التداعيات الخطيرة، عكفت القيادة التركية – حسب معلومات ديبلوماسية – على صوغ استراتيجية جديدة تجاه العراق تقوم على أربعة محاور:
1- تعزيز وجودها في كردستان العراق. تحتفظ تركيا اليوم بقوة من 1500-2000 جندي في مواقع مختارة في شمال العراق باتفاق مع حكومة الإقليم هناك. مهمة هذه الوحدات استطلاعية استخبارية بشكل رئيس لمراقبة تحركات عناصر “حزب العمال الكردستاني” وحماية المصالح التركية. تدرس تركيا اليوم تعزيز هذه الوحدات بزيادة عناصرها وقدراتها اللوجستية لمواجهة التطورات المستجدة.
2- فتح قنوات اتصال مع أكراد سوريا بواسطة زعيم “حزب الاتحاد الديموقراطي” صالح مسلم. وكانت أنقرة قد بدأت منذ بداية الأزمة السورية الاتصال بمسلم (وهو الذي يجيد التركية بطلاقة والمتخرج في الهندسة الكيميائية من إحدى جامعات اسطنبول) سراً وعبر البرزاني في أربيل، وبتوسط من أوجلان، حيث تولت هذه المهمة الاستخبارات القومية التركية بشخص مديرها الرجل القوي حقان فيدان. ثم تطورت اللقاءات وأصبحت علنية ولكن بعيداً من الإعلام، وتركزت على تحديد موقع أكراد سوريا من نظام الأسد، ولجم اندفاعهم ومنعهم من اتخاذ خطوات انفصالية أو استفزازية تجاه تركيا.
غير أن اتهام “حزب الاتحاد الديموقراطي” المتكرر لتركيا بدعم التنظيمات الإسلامية المتطرفة في سوريا بهدف مقاتلة الأكراد أدّى إلى توقف المحادثات وانقطاع الاتصال بين الطرفين، وبالتالي خسارة تركية ورقة مهمة في سوريا. اليوم تدرس تركيا إعادة فتح قناة الاتصال مع مسلم بالطريقة ذاتها. حتى أن تقارير ذكرت أن فيدان زار أربيل سراً الأسبوع الماضي والتقى بمسلم هناك ووجه له دعوة لزيارة اسطنبول لمتابعة المحادثات بينهما.
3- تغيير نمط علاقاتها بالعشائر السنية وبتركمان العراق، وإعادة إحيائها على أسس جديدة لا تقتصر فقط على البعد المذهبي السني (مع العشائر) أو الإثني (مع التركمان) أو على مجرد العداء لحكومة بغداد، بل على الدعم المباشر لناحية الاستثمارات والعلاقات التجارية والمصالح المتبادلة.
4- تقضي الاستراتيجية التركية الجديدة أيضاً بفتح قناة مباشرة مع إيران حول العراق. لا يُخفى أن العلاقة بين تركيا وإيران قد ازدادت توتراً منذ اندلاع الأزمة السورية مع افتراق الجارين تماماً حول هذا الملف. إلا أن أنقرة تسعى في توجهها الجديد إلى فصل الملف العراقي عن الأزمة السورية في علاقتها مع طهران، مستندة في ذلك إلى مصلحة مشتركة تجمع البلدين في العراق وهي محاربة توسع الحكم الذاتي الكردي ومنعه من الوصول إلى مرحلة الاستقلال.
إن كانت الأزمة السورية قد وضعت حدّاً لتصاعد النفوذ التركي في المنطقة الذي بلغ أوجه في العام 2010، ثم بدأ بالانحسار تدريجاً مع الحرب السورية وتباعاً مع الأزمة المصرية والعلاقات المتدهورة مع بغداد وطهران وتل أبيب ودول الخليج العربي، والأزمة الأوكرانية؛ فإن الأزمة العراقية الأخيرة قد دفعت بتركيا إلى موقع دفاعي تحاول منه تحديد الخسائر ودرءها عن أمنها الذاتي. فهل تعيد الخطة الجديدة لتركيا بعضاً من نفوذ لم يطل بريقه، أم تنكفئ تماماً داخل حدودها جاهدة للحفاظ عليها وعلى وحدة أراضيها في وقت تتهاوى فيه حدودٌ وتُرسم أخرى على أبعاد مذهبية وإثنية ليست تركيا بالمحصنة ضدها؟
سي أن أن: تحذير بايدن من النووي الروسي لم يبن على معلومات استخبارية
قال العديد من المسؤولين الأميركيين لشبكة CNN إنّ "تحذير الرئيس جو بايدن ليلة الخميس من أن العالم يواجه أعلى احتمال...