لم يكن أحد في لبنان يتوقع
عودة الرئيس سعد الحريري في هذا الوقت وبهذه الطريقة.
هو لم يعلم أحدا حتى أقرب المقربين إليه بعودته، وحتى الرئيس تمام سلام علم
بالأمر بعد ساعات على وصول الحريري فجرا الى بيروت قبل أن تطأ قدماه أرض السرايا
الحكومي على السجاد الأحمر ليدخلها دخول «الفاتحين» ويبدأ على الفور التصرف كـ
«رئيس فعلي» للحكومة.
ومن الطبيعي لهذه العودة المفاجئة التي شكلت اختراقا
مدويا للوضع السياسي وأحدثت حالا من الصدمة والذهول أن تطرح الكثير من التساؤلات:
لماذا عاد الحريري الآن؟ هل هي زيارة لإقامة مؤقتة وأهداف محددة، أم هي عودة لإقامة
طويلة ودائمة؟ هل حصلت هذه العودة في إطار تفاهمات وضمانات مسبقة سياسية وأمنية
وتحت مظلة إقليمية، أم أنها عودة الأمر الواقع ومن طرف واحد من دون تنازلات وأثمان؟
هل تفتح مرحلة سياسية جديدة؟، وهل تحدث تغييرا عمليا في الواقع السياسي بعدما أحدثت
تغييرا «نفسيا» في الجو والمزاج العام؟ المرحلة المقبلة كفيلة بالإجابة عن كثير من
هذه التساؤلات، ولكن ما هو مؤكد وواضح الآن:
1- الحريري
يعود الى لبنان لإقامة طويلة ودائمة منهيا ثلاث سنوات من المنفى السياسي بعد خروجه
من الحكم ولبنان مطلع عام 2011.
خروجه كان منطلقا لمرحلة سياسية جديدة وضعت
«تيار المستقبل» لأول مرة خارج الحكم منذ العام 2005 وأدت الى اهتزاز وإرباك على
ثلاثة مستويات: تيار المستقبل والطائفة السنية وقوى 14 آذار.
وعودته ستكون
بداية لمرحلة سياسية جديدة يفترض أن تشهد إنعاشا سياسيا ومعنويا على هذه المستويات
الثلاثة وباتجاه استعادة زمام المبادرة والتماسك والفاعلية.
2- هذه العودة التي خالفت توقعات سابقة (توقع عون بخروج من دون
عودة، وبعده توقع الحريري نفسه بعودته عن طريق مطار دمشق)، وهذه العودة التي جرت
على مرحلتين (باعتبار أن المرحلة الأولى تمثلت بالعودة السياسية عبر حكومة الشراكة
مع حزب الله) لم تتم في إطار صفقة أو اتفاق بين السعودية وإيران ولا على أساس اتفاق
سياسي مسبق بين الحريري وحزب الله.
يبدو الأمر أقرب الى «قرار سعودي» اتخذ
بضرورة العودة العاجلة لاحتواء وضع لبناني وسني بدأ يخرج عن السيطرة. الحريري عاد
من بوابة عرسال وتحت ضغط ظروف أمنية، ولم يعد من بوابة «الرئاسة والحكومة» وعلى
أساس اتفاقات سياسية. وأعطي لعودته هدف وعنوان رئيسيا هو قيادة الاعتدال في مواجهة
التطرف.
3- النتائج المباشرة والملموسة لوجود الحريري في بيروت ستكون:
? عودة «الروح» الى تيار المستقبل وعودة التماسك والانضباط إليه وانكفاء، الى حد
انتفاء، مراكز القوى الناشئة داخله. ومن الواضح الآن أن وجود الحريري سيكون كافيا
للحد من أدوار وطموحات شخصيات كثيرة تعاظم نفوذها وتأثيرها في السنوات الثلاث
الأخيرة.
? ضبط إيقاع الطائفة السنية وتغليب وجهة الاعتدال فيها على التطرف، ووضع حد
لحالة التآكل في نفوذ تيار المستقبل وحضوره في الشارع السني بعدما أدى تراجع
المستقبل لأسباب عدة أبرزها غياب الحريري الى نشوء وتوسع حالات التشدد الديني
والسياسي، وكذلك البؤر والخروقات الأمنية. والمؤشر الأول الى الوضع السني الجديد هو
انتخاب المفتي الجديد عبد اللطيف دريان ووضع حد لحالة انقسام وتشرذم على مستوى قمة
السلطة أو المرجعية الدينية.
? «تعويم» ورد الاعتبار والتماسك لقوى 14 آذار التي أنهكتها التباينات السياسية
وباتت في حكم المعطلة، والبداية السريعة كانت في إحياء المشهد السياسي الجامع وعلى
مستوى قيادات الصف الأول في اجتماع بيت الوسط، وحيث يتأكد أن أمورا كثيرة تتغير مع
وجود الحريري في بيروت على مستوى العلاقات وآلية التشاور ووضع الخطط والسياسات
واتخاذ القرارات.
? بث حيوية ودينامية سياسية في مجمل الوضع السياسي، وهذا ما يفترض أنه يعزز فرص
إعادة تحريك ملفات عالقة وتسهيل عملية إيجاد حلول لها (ملفات رئاسة الجمهورية ومجلس
النواب تمديدا وجلسات تشريعية، وسلسلة الرتب والرواتب).
4- عودة الحريري لا تفتتح مرحلة جديدة من العلاقة مع حزب الله،
أقله في وقت قريب ومدى منظور. فقد حرصت أوساط الحريري على التوضيح أن لقاء له مع
السيد حسن نصرالله ليس مدرجا على جدول لقاءاته التي تشمل بري وعون، وعلى التوضيح
أيضا أن علاقته مع حزب الله ما تزال في مرحلة الهدنة وتحت سقف حكومة المصلحة
الوطنية وفي إطار سياسة «ربط نزاع». وكأنه بذلك يريد أن يقول إن حزب الله هو الذي
أخرجه من لبنان ولكن ليس حزب الله هو الذي أعاده إليه.
5- عودة الحريري لا تستند الى «تسوية أو صفقة سياسية» متكاملة
بدءا من رئاسة الجمهورية، ولا يتوقع لها أن تحدث خرقا أو تخلط الأوراق في الاستحقاق
الرئاسي وأن تغير في المعطيات التي تحكم هذا الاستحقاق وأدت الى تعطيله (وبالتالي
فإن مصير جلسة اليوم ستكون مثل مصير سابقاتها). فهذه المعطيات تفيد بأن التوافق
الإقليمي وتحديدا الإيراني ـ السعودي البعيد المنال هو العامل الحاسم، وأن القرار
على المستوى اللبناني هو في يد حزب الله الذي وضع مفتاح اللعبة الرئاسية في يد عون.
كما تفيد بأن التمديد للمجلس النيابي هو الذي يتقدم حاليا على انتخاب رئيس
الجمهورية، وأن الستاتيكو القائم مستمر حتى إشعار آخر بكل مكوناته: فراغ بعبدا،
«مجلس بري»، «حكومة سلام».
إذا لم تكن عودة الحريري الى بيروت قد ارتبطت بتسوية سياسية مسبقة، فإنها تساهم
في فتح الأفق أمام تسوية لاحقة. وإذا كانت عودة الحريري الى بيروت غير مرتبطة
بعودته الى رئاسة الحكومة فإنها تعجل في هذه العودة التي تفتقر الى عنصرين: وجود
رئيس للجمهورية من دونه لا مجال لتغيير حكومي. وموافقة حزب الله. فإذا كان الحريري
قادرا على العودة الى لبنان من دون الاتفاق مع حزب الله، فإنه ليس قادرا على العودة
الى رئاسة الحكومة من دون حزب الله.
وإذا كان حزب الله مرحبا بعودة الحريري الى لبنان مادامت تصب في مصلحته لأنه في
حاجة الى سند سني في محاربة الإرهاب والتطرف ولأنه يفضل محاورة الأصيل بدل محاورة
وكيل أو وكلاء. فإن حزب الله لا يرحب بعودة الحريري الى رئاسة الحكومة إلا وفق دفتر
شروط والتزامات ومن ضمن صفقة متكاملة وفق مبدأ «السلة الواحدة».