طوال الأزمة السورية، لم يتجرأ أو لم يُرِد أحد ممّن يدّعون محاربة الارهاب اليوم على إدانة تصرفات “داعش”. فكيف اليوم ينوون محاربتها، فيما بات واضحاً أن هذه الدولة الهجينة هي من نتاج مخابراتهم.
وفي وقتٍ تقوم القوات الأميركية بتوجيه ضربات “محدودة” لمجموعات “الدولة الإسلامية”، فإنّ البنتاغون استبعد مؤخراً أن”تؤثر الضربات الأميركية شمال العراق على قدرات تنظيم الدولة الإسلامية عموماً، أو أنشطته في المناطق الأخرى”. هذا التصريح يبدي عدم رغبة أميركية، على الأرجح، في الدخول إلى أتون الصراعات الملتهبة في الشرق الأوسط. وهي بالتالي مستفيدة من كلّ ما يجري، إضافة إلى كونها ستكون أول المستفيدين أيضاً في حال تمّ التوافق على التخلص من التنظيم الإرهابي الأكبر في العالم. كيف لا، والصيحات العربية والاقليمية راحت تتصاعد مطالبةً للولايات المتحدة بالتدخل للحد من توسع “داعش”. والولايات المتحدة هذه، لا يمكنها أن تخفي مساهمة مخابراتها وأجهزتها في إنشاء مثل هذه التنظيمات ودعمها، ثم تلجأ فيما بعد إلى توريط حلفائها، وذلك حتى تكون هي “المخلّص” الأوحد. وفي كل مرة تعمّق سيطرتها على مقدرات هذه الدول وخيراتها، فضلاً عن ساستها وسياسيّيها.
علي المقلب الآخر، وردت معلومات عن تأهّب تركي للتدخل عسكرياً في إقليم كردستان. هذا التدخل ليس كسابقاته، أي ليس لمواجهة حزب العمال الكردستاني أو سواه من التنظيمات الكردية المسلحة. بل بحجة “تأمين طريق آمن للنازحين من مناطق سنجار والموصل وتلعفر ولحماية المسيحيين والتركمان”.
إنّ تركيا أردوغان التي صار لها علاقات جيدة بقيادة إقليم كردستان العراقي مؤخراً، تسعى للتدخل في المنطقة عبر بوابة هذا الإقليم بعدما عجزت عنه في سوريا. وهو يأتي بعد الزيارة الأخيرة لمسعود بارازاني إلى أنقرة، وبعد التصريح الأميركي الأخير بالدعوة لحماية الأقليات. ويبدو أنّ القوات التركية لن تدخل بصراع مع “الدولة الإسلامية”. وهذا ما أفاد به وزير الدفاع التركي يوم أمس الأول، حيث قال “إنّ تركيا لا تنوي القتال ضد داعش ولن تقوم بأية عملية في إقليم كردستان ضدها بالتعاون مع الولايات المتحدة”. ولقد ألقى الوزير التركي حجة التدخل على الملأ، لكنه قال إنّ عدم رغبة بلاده في قتال هذا التنظيم تعود لكونه يحتجز 49 تركياً لديه. وهذا يُظهر مدى تجنب تركيا لقتال “داعش”، كما يشير إلى مدى رغبتها في أن يكون لها دوراً. يأتي هذا بعد تراجع الدور التركي في المنطقة مع تراجع نفوذ الإسلاميين ومحاربتهم من عدة دول كانت حليفة لها كالسعودية والإمارات العربية المتحدة، وبعدما تورّطت في الأزمة السورية حتى النخاع. وإذا تمت العودة لقضية سفينة مرمرة التركية التي تعرضت للقرصنة الإسرائيلية فيما سبق، والتي تعرض معظم أفراد طاقمها من أتراك وسواهم للقتل والاعتقال، فإن أنقرة كانت أبعد ما يكون عن حماية مدنييها، بل وإنها ساومت على قضيتهم في سبيل تحسين علاقاتها بالكيان الصهيوني.
في وقت سابق من شهر تموز الفائت، نقلت صحيفة تركية عن رئيس كردستان، مسعود بارازاني، أنه سمح لوحدة من الاستخبارات الإسرائيلية بالدخول إلى كردستان والاستقرار في أربيل، وذلك في سبيل التنصت على الجيش العراقي وتقديم المعلومات اللازمة لتنظيم “داعش”. قد لا يكون الخبر صحيحاً، لا أنه يشير إلى مدى تورّط الدول المعنية في دعم قيام “الدولة الإسلامية”. وهم ربما يهدفون إلى تفتيت المنطقة وإعادة ترتيب أوراقها بطريقة تتيح السيطرة عليها وتقاسم مغانمها من جديد.
لكن الدولة “الوحش” التي نشأت باتت تثير مخاوف حكام الدول المحيطة، ما دفع بعضها لإصدار قرارات واضحة في محاربة الإرهاب. ولربما ليس الخطاب الأخير للملك السعودي بعيداً عن هذه الأجواء. أضف إلى ذلك، أنّ الدول التي تآمرت على سوريا ومصر وسواها، تشهد صراعات خفية فيما بينها. وهذا يبدو واضحاً في الخلافات السعودية مع كلّ من تركيا وقطر، وهو بان في مصر ويعد لذلك في كل من سوريا والعراق.
مهما اختلفت دول المنطقة فيما بينها، يبقى أنّ الأميركي وربيبه الإسرائيلي هما أول المستفيدين. وكل الصراعات السياسية والعسكرية، الخفية منها والعلنية، بين هذه لدول، ستدرّ أموال شراء السلاح على الولايات المتحدة الأمريكية، وستؤمّن للكيان الصهيوني سنوات أخرى من ضياع البوصلة العربية والإسلامية.